جمهورية الدهشة !!
يبدو أن موضوع زيارتي المزمعة لجمهورية “سيشيل” أغرى الكثيرين ممن قرأوا مقال (الخميس)، الذي جاء في أعقاب زيارة المبعوث الخاص لجمهورية “سيشيل” إلى الخرطوم، حيث قلت في ما قلت إن هؤلاء الناس طالما وصلوا إلينا جديرون بأن نصل إليهم، وحكيت كيف أن صديقاً لي في بلاد الغربة اقترح عليَّ ذات عام أن نسافر إلى “سيشيل” فلم أتحمس للفكرة وقتها بمقدار ما أجدني الآن أكثر رغبة في رد الزيارة.
“سيشيل” التي تعد عاصمتها “فيكتوريا” الأصغر في العالم، ولا يتجاوز سكان جمهوريتها التسعين ألف نسمة أغرت كثيرين غيري دون أن أزعم مدى جديتهم، وما إذا كانت مهاتفاتهم لي في يوم المقال من باب حجز التذكرة لنكون في طائرة واحدة وضمن رفقة مأمونة أم لمجرد الفضول ومحاولة اكتشاف الدوافع الغرائبية التي دفعت بشخصي الضعيف للمغامرة بالسفر إلى جمهورية قد لا يعرفها أحد.
اقترح لي صديق خفيف الظل أن ننشئ جمعية للصداقة السودانية السيشيلية، وقال لي صديق آخر ممازحا: (شكلك كدا حتلبد في الجزر ديك وما ناوي ترجع). لكن ما استوقفني بحق رسالة نصية من شخص لا أعرفه، ولا أعرف كيف تحصّل على رقم هاتفي كتب لي قائلاً: (ياخي الناس في شنو وإنت في شنو .. شابكنا سيشيل المدهشة والجزر الأنيقة وحتقضّي إجازتك هناك.. الظاهر أمورك ماشة تمام وأحوالك عال العال).. ابتسمت في وجه الهاتف الذي أمامي.. ضغطت على زر الرد.. فكرت أن اكتب له: (اللهم لا حسد ولا شماتة).. عدلت عن الفكرة وكتبت: (معاك حق.. والأمور ماشة معاي تمام والدليل أنني سأغادر إلى سيشيل.. رأيك شنو تجي معانا.. بس طبعاً الدعوة ما مدفوعة!).. في أقل من دقيقة وصلني رده: (يا أستاذ بَطّل استفزاز.. سيشيل دي كان بركب ليها بص الكلاكلة ما ماشي.. وبعدين تعال إنت جزيرة توتي دي ماله ما مالية عينك ولا شنو؟.. تصدق يا أستاذ أنا لحدي هسي ما شفت توتي دي بعيني.. أنا بدعوك والدعوة مدفوعة.. شفت الكرم الطائي دا كيف..تقول لي.. سيشيلي)!!.
أدركت تماماً أنني لن أقدر على مجاراته والرد عليه.. فأزحت الهاتف بعيداً ثم سرحت أبعد: معقولة طيارة كاملة العدد ماشة من الخرطوم لجمهورية الدهشة.. وأصغر العواصم وأقلها كثافة سكانية..البلد الذي حوى كل قارات العالم.. المفروض الجمهورية دي تستضيفني مجاناً لأنني نجحت في استقطاب عدد مهول من السياح.. يا لِهذا البلد من روعة في المكان والزمان.. لا توجد سيارات.. فكلهم يسكنون على الشاطئ على بعد خطوات من بعضهم البعض لا يحتاجون لوسائل نقل تحتاج بدورها إلى الوقود.. الوقود الذي يمكن أن يُرفع الدعم عنه في أي لحظة.. طعامهم من البحر فلا يخشون أن لا يجدوا قوتهم أو يعانون من رهق ارتفاع الأسعار.. الدولار لا يرعبهم لأن السياح يأتونهم بكل السحنات والعملات.. الفساد لا أثر له، حيث لا شيء يمكن أن ينهب، أو تحايل يمكن أن يقع، أو تجاوز يمكن أن يحدث.. فالحكومة تعرف مواطنيها فرداً فرداً.. والمواطنون يعرفون تماماً حكومتهم.. محدودة العدد.. معلومة الملفات.. محسومة الميزانيات.. لا بدينة ولا مترهلة ولا تقسم ظهرها الترضيات.. لا أحزاب سياسية ولا يحزنون.. لا معارضة ولا موالاة.. فالبحر دائماً يتسع للجميع ممن ضاقت بهم اليابسة.. مازلت أتجول في شوارع سيشيل الترابية.. هدوء مطلق.. الناس لا يثرثرون هم في حالة تأمل دائم للطبيعة من حولهم ليسوا بالفضوليين ولا يحشرون أنوفهم في ما لا يعنيهم.. لا يسألون الغرباء من أين جاءوا..فهم أنفسهم غرباء توافدوا من كل بقاع الأرض.. لذلك لم تهزمهم القبلية والجهوية والعنصرية.. وفي المساء جلست أمام تلفازهم وتابعت نشرة الأخبار.. كانت أنيقةً خاليةً من كل سوء.. تحوي فقط أين يمكن أن تقضي سهرتك هذا المساء وأي موقع سياحي يمكن أن تذهب إليه .. أما أخبار الرئيس فهي برقية يومية ثابتة لكل المواطنين والسياح (أهلاً بكم في جمهوريتنا.. نتمنى لكم قضاء أمتع الأوقات).. يأخذني النوم.. تعيدني شمس الصباح إلى فراشي.. أستيقظ على رنة هاتفي فأرد متكاسلاً: (ألو مرحب).. يأتيني صوت أشبه بالصراخ: (إنت لسة في الخرطوم أنا قايلك هسة تكون سافرت سيشيل).. أتلفت حولي لأتأكد إن كنت أنا هنا أم هناك.. مازلت هنا.. لست هناك.. كان حلماً ليس إلا إذاً.. بالإمكان أن نصنع جمهورية الدهشة في أحلامنا.. نحن من يمنح للأمكنة دهشتها.. فجمهورية الدهشة لم توجد بعد !.