تقارير

ما بين السياسي والقانوني.. صراع الكبار حول أوضاع حقوق الإنسان!!

قبل أن تختفي الابتسامات التي تبادلتها السفيرة “رحمة عبيد” رئيسة بعثة السودان الدائمة لدى مجلس حقوق الإنسان مع مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشئون الأفريقية بأن انفراجاً وشيكاً في العلاقات السودانية الأمريكية والتفاهم حول تجديد ولاية الخبير المستقل لحقوق الإنسان تحت البند العاشر، تبددت التفاؤلات، وتوترت العلاقات عائدة الى نقطة الصفر إثر رفض الولايات المتحدة الأمريكية منح الرئيس “البشير” تأشيرة دخول لأراضيها، مخالفة بذلك اتفاقية المقر التي تنص على أن تمنح الولايات المتحدة الأمريكية رؤساء الدول والحكومات وممثلي الدول تأشيرات دخول دون قيود أو شروط؛ مما أثار حفيظة وزارة الخارجية السودانية، التي أصدرت بياناً غاضباً أمس الأول أعاد للأذهان تاريخاً طويلاً من التراشق بين أكبر دولة في العالم والسودان، الذي هو ينظر لنفسه بأنه قوة لا تقل عن أمريكا.
وفي “جنيف” السويسرية عصف الاتحاد الأوروبي بما تبقى من آمال بإصداره لبيان شديد اللهجة يندد بانتهاكات لحقوق الإنسان في كل من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، بيد أن المجموعة الأفريقية التي تقف إلى جوار السودان أو قريباً منه اتخذت لنفسها موقفاً مستقلاً نسبياً عن أمريكا والاتحاد الأوروبي وثماني عشرة منظمة طوعية في مقدمتها منظمة العفو الدولية (امنيسفي انترناشيونال)، التي تشددت هي الأخرى ضرورة معاقبة السودان ورفض تقرير الخبير المستقل. إلى ذلك وصل إلى “جنيف” وزير العدل مولانا “محمد بشارة دوسة” قبل أسبوع من تقديم الخبير المستقل لبيانه أمام مجلس حقوق الإنسان. وعلمت (المجهر) أن وصول الوزير المفاجئ إلى “جنيف” له علاقة وثيقة بتطورات الموقف التفاوضي مع المجموعات الأفريقية والمجموعات العربية والاتحاد الأوروبي حول تجديد ولاية الخبير د.”مشهود بدرين”. وغداة وصوله قال الوزير “محمد بشارة دوسة” في حديث لـ(المجهر) إن ما يجري في ملف حقوق الإنسان لا يمثل وجه الصراع الحقيقي، فالقضية في الأساس صراع سياسي واختلافات في المناهج الأيدلوجية، وليست مسألة انتهاك السودان لحقوق الإنسان، وقال إن السودان أحرز تقدماً كبيراً في إستراتيجيته الوطنية، وزاد بالقول: (لكن الوعود التي بذلها المجتمع الدولي بموجب قرار تكليف الخبير المستقل تبددت إلى السراب، حيث لم تقدم أي مساعدات فنية للسودان). وأقر الوزير بأن العقوبات الأمريكية على السودان قد ألقت بظلالها السالبة على حق السودان في الحصول على التكنولوجيا ووسائط النقل والمواصلات والاتصالات مما أثر على نمو السودان وهضم حقوق شعبه في التمتع بالتكنولوجيا والتقدم الإنساني، وقال “دوسة”: (يجب أن نخرج نهائياً من مسألة الولاية للخبير المستقل هذا العام، ولكن إذا ما تعرضنا لضغوط أكثر مما هو ماثل الآن فلدينا من الخيارات الكثير)، ورفض الإفصاح عن تلك الخيارات في الوقت الراهن. وكشف “دوسة” عن قيامه بزيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في غضون شهر سبتمبر الجاري ضمن وفد السودان المشارك في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وعلى الصعيد ذاته تصدر المجموعة الأفريقية قرارها بشأن الخبير المستقل اليوم (الجمعة) بعد أن انخرطت في اجتماعات مطولة طوال يومي (الأربعاء) و(الخميس) وتابعها عن قرب من وفد السودان السفير “حمزة عمر” والدكتور “معاذ تنقو” إضافة إلى فنيين من وزارتي العدل والخارجية، فإلى أين تتجه العلاقات السودانية الأمريكية، هل عادت إلى نقطة الصفر؟ بعد التفاؤل الحذر إثر لقاء مندوبة السودان بمساعد وزيرة الخارجية الأمريكي لشئون أفريقيا (الجمعة) الماضية، وإمكانية التوصل لتفاهمات، ولكن بيان الخارجية السودانية صب زيتاً على نار مشتعلة أصلاً، حيث بدأ يعود مشهد تكرر كثيراً بين السودان وأمريكا، حتى كاد يعود الهتاف القديم (أمريكا روسيا قد دنا عذابها). أما عذابات السودان فتكاثرت من خلال الأوجاع التي يعانيها بسبب الحصار والمقاطعة، والأوضاع السياسية والاقتصادية الداخلية التي تعاني من اختلالات أساسية وجوهرية.
في “جنيف” تبدت المفارقة الكبيرة بين ما تدعو اليه الحكومة السودانية وما ذكره الخبير المستقل من جهة، وبيانات الاتحاد الأوروبي والمنظمات الطوعية التي بدت أكثر تطرفاً في مطالبتها بإخضاع السودان لرقابة تحت البند الرابع، بينما يلوح السودان بإمكانية إلغاء كامل ورفض استقبال الخبير المستقل ليحذو حذو كوريا الشمالية التي أقدمت على تلك الخطوة فترتبت على ذلك عقوبات صارمة. هل يطيقها السودان أم لا؟. تلك قصة أخرى ولكن داخل الحكومة ثمة تيارات ترى أن في التفاوض مع أمريكا والحديث عن حقوق الإنسان لا يمثل إلا مضيعة كبرى للوقت. السؤال: ما هي القضايا التي أثارتها المنظمات الطوعية في وجه السودان في “جنيف”؟. من خلال رصد (المجهر) لبيانات المنظمات الطوعية وبيان الاتحاد الأوروبي فإن أبرز النقاط هي المطالبة بتعديل قانون القوات المسلحة الأخير، والزعم بأن السودان يسعى لتقديم المدنيين إلى محاكم عسكرية بدعوى مخالفتهم للقوانين السائدة في البلاد، كما أثيرت قضية الفتاة التي قدمت للمحاكمة في منطقة الكلاكلة بحجة أن خصلات من شعرها قد ظهرت، وأنها ترتدي (تي شيرت) جعلها تقع تحت طائلة قانون الزي غير المحتشم. كما أن الزعم بأن الحكومة السودانية حجبت منظمات عاملة في دارفور عن تقديم العون الغذائي لمعسكري “عطاش” و”خمسة دقائق”، وأن الخبير المستقل لم تتح له الفرصة لزيارة منطقة جنوب كردفان، حيث تدور الحرب بين القوات المسلحة ومتمردي قطاع الشمال، كما أن المنظمات تحدثت عن اعتقال نساء في سجن الأبيض بتهمة التواصل مع الحركة الشعبية عبر الهاتف، والزعم بأن منسوبي القوات النظامية في السودان يتمتعون بحصانة تحول دون تقديمهم للمحاكمة أو مساءلتهم حينما يرتكبون جرائم ضد الإنسانية، كما قالت إن الحكومة السودانية تفرض رقابة على وسائل الإعلام، وتأمر بإيقاف الصحفيين أفراداً وجماعات وتعطل إصدار الصحف والقنوات، ولا تسمح بوصول أجهزة الإعلام لمناطق النزاعات. وفندت بعثة السودان الدائمة في “جنيف” تلك المزاعم لا بالفرض الكلي، ولكن بتقديم توضيحات وحجج، ربما لم تجد أذناً صاغية في كل الأحوال، ولكنها حجج وضعت بين أيدي المؤتمرين في “جنيف”. وذكر تقرير أعدته النائبتان البرلمانيتان “عفاف تاور كافي” و”عبلة محمود” عضو مجلس الولايات أن حزمة من الإصلاحات شهدتها جبال النوبة بإطلاق سراح المعتقلات، وعودة الموظفين الموقوفين عن أعمالهم بموجب قرار صادر من الوالي الجديد في شمال كردفان مولانا “أحمد هارون” وخلق مناخ سياسي مغاير لما كان سائداً من قبل، عطفاً عن تقديم حزمة من الانتهاكات ارتكبتها الحركة الشعبية في كل من “الدلنج” و”أبوكرشولا” و”الدندور” و”كادوقلي”، وحمَّل التقرير متمردي حركة العدل والمساواة مسئولية أحداث “الدلنج” التي راح ضحيتها (53) من المدنيين.
محيط السودان
وتشهد أروقة مجلس حقوق الإنسان في الخامس والعشرين من الشهر الجاري أي قبل يومين من نهاية الدورة تقديم الوزير “محمد بشارة دوسة” مرافعته بشأن كل ما أثير خلال الأيام الماضية، ولا تسيطر قضية السودان وحدها على ما يجري في أروقة مجلس حقوق الإنسان، حيث أثيرت أمس قضية انتهاكات حقوق الإنسان في مصر التي وجدت استنكاراً من كل المجموعات خاصة المجموعة الأفريقية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وباتت مصر أقرب لوضعها تحت الرقابة المباشرة، فيما دعا حقوقيون ومنظمات مثل (امنيست انترناشونال) إلى تكوين لجنة تحقيق فيما جرى في ميدان “رابعة العدوية” وتحويل مرتكبي جرائم انتهاكات حقوق الإنسان في مصر إلى محكمة العدل الدولية. وبدأ الوفد الإريتري منافحا عن الأوضاع في بلاده، التي تشهد هي الأخرى انتقادات من قبل المجتمع الدولي، ويبدو أن المحيط العربي والأفريقي شرق وغرب وجنوب السودان قد وضع تحت مجهر الرقابة، فدولة جنوب السودان الوليدة التي تم وضعها تحت البند الرابع المتعلق بالرقابة المباشرة عادت مجدداً منظمات حقوق الإنسان والمجموعة الأوروبية لتوجيه النقد لحكومتها تحت ذريعة أنها تنتهك حقوق مواطني منطقة جونقلي وتضيق على الحريات الصحفية والإعلامية في دولة الجنوب.
أما الوضع في سوريا فقد أخذ حيزاً واسعاً في مداولات الأسبوع الماضي على غرار العراق وأفغانستان وروسيا البيضاء، ولكن بقية البلدان العربية لا تبدو ثمة انتقادات تذكر لها باستثناء بعض المعارضين من اليسار العربي والليبراليين المقيمين خارج الوطن العربي، حيث قاموا بتوجيه النقد لأوضاع حقوق الإنسان في تلك البلدان.
رجال ونساء السودان الذين قدموا ضمن الوفد الحكومي إلى “جنيف” أو حتى الذين يقيمون هناك ضمن البعثة الرسمية يدخلون في حالة تشاور وتفاكر مستمر وسهر إلى ساعات متأخرة من الليالي، وذلك الوضع لم يكن ليوم أو يومين، وإنما استمرت عملية المتابعة عبر الرجال والنساء الذين يعملون من خلف الكواليس ومعهم الآخرين الذين يعملون في الظاهر في جمع المعلومات وتحليلها وإعادة صياغتها في شكل تقرير أو تقارير تودع أو تقدم إلى المجلس ولجان الخبراء المختلفة.
مولانا “أميمة” كبير مستشاري المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في السودان ومعها الدكتورة “تهاني” ومولانا “عائشة” ومولانا “حسام” ومعهم الدكتور “معاذ تنقو” ظلوا في حالة تواصل وتشاور واجتماعات مستمرة لدرجة أن بعضهم بدا أثر الرهق ظاهرا في أعينه، ولكن رغبتهم في إكمال مهمتهم وصياغة التقارير والبحث عن الثغرات التي يستغلونها في المرافعات التي سيقدمها وزير العدل في الخامس والعشرين من الشهر الجاري.
طوال الأيام الماضية ظل الجميع في طاقم السفارة السودانية في حالة حركة بما في ذلك طاقم السائقين، وحتى “لوميتا” التايلندية التي تقدم خدمات الشاي والقهوة في السفارة السودانية، هي الأخرى لم تسلم من رهق التحرك رغم حراكها العالي بشكل طبيعي وبشاشة وجهها في خدمة ضيوفها.
“لوميتا” ليس مجرد اسم أو شخص يعمل من داخل السفارة السودانية، وإنما هي حالة انتابت الجميع وأضفت عليهم حركة كثيفة طوعاً أو كرهاً، حيث إن إيقاع الحياة المتسارع هنا لا يترك لشخص مساحة للنظر إلى جمال الطبيعة الذي عبر عنه البعض في التوصيف بالقول بأن الخواجات الذين يقودون (كلابهم) منساقة بسلاسل وحبال تتدلى من أيادي نسائهم الناعمة الملمس، بأن عالم الخواجات قد تجاوز مراحل البحث عن حقوق الإنسان التي قدمنا لأجلها لإعطاء الحيوان حقوقاً يفقدها الإنسان في بلدان من العالم.
السفيرة “رحمة” التي تمثل السودان في مجلس حقوق الإنسان بوصفها المندوب الدائم وسفيرة السودان في سويسرا هي الأخرى تمارس كل أشكال الدبلوماسية في باطن الأرض وظاهرها للوصول إلى تقرير يحفظ للسودان حمايته من التدخلات التي تجعله يعود إلى الخلف.
(جنيف أو جنيفا) كما ينطقها أهل البلدة الذين لا يجيدون سوى الفرنسية لغة في التخاطب، هي الأخرى ظلت متقلبة الأجواء كتقلب مواقف المنظمات وبعض الدول، فالأمطار تهطل والسحب تتراكم والغيوم تأتي وتذهب وبرودة الطقس لا تبارح المكان، ولكن القاعات المغلقة والتفاهمات الثنائية والجماعية تعكس واقعاً يخالف تلك الأجواء فالطقس يبدو ساخنا لدرجة أن مصائر بعض الدول في تصنيفات حقوق الإنسان تبدو غير واضحة.
الطرفة لا تبارح المكان والبعض تجاوز واقع حقوق الإنسان في تعبيرات، وأشار إلى قضايا تتعلق بمسائل مختلفة اقتصادية وسياسية، حيث أشار البعض إلى وجود شخص ظل معتصماً في مدينة القانون وحقوق الإنسان لفترة تجاوزت الأربعة عشر عاماً، وظل خلالها يرفع اللافتات احتجاجاً على ضربة (هيروشيما ونجازاكي) وظل الناس يتعاطفون معه ويساعدون في تقديم الهبات. بينما ذهب البعض إلى عقد المقارنات في الأسعار بين جنيف والخرطوم، حيث علق بعضنا على سعر ساعة سويسرية زاد سعرها عن المائة ألف من اليوروات، أي بما يزيد عن المائة من الملايين السودانية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية