المشهد السياسي

الربيع العربي وتونسياته .. قراءة..!

في (19) فبراير من العام الماضي، وفي المشهد السياسي، كنت قد أطلقت نبوءة جماعها أن (تونسية) الرئيس “بشار الأسد” ستقلع، ولكن في أجواء غائمة وغير خالية من المطبات الهوائية وخلافها، فهي بكل الحسابات والتقديرات تختلف عن تونسية “بن علي” والرئيس المصري “مبارك” والعقيد الليبي “معمر القذافي”، فقد أقلعت تونسية كل من هؤلاء في ظروف ومناخات وأجواء أقل كلفة بشرية ومادية وسياسية وزمنية..
ولم يكن ذلك بعيداً عن الحقيقة والأزمة السورية – بكل مضاعفاتها غير الحميدة – قد أوشكت على نهاية عامها الثالث، ووصل فيها الحال بين الحكومة ومعارضيها إلى استخدام الكيماوي، وإبادة الكثيرين وإجبار الملايين على الهجرة واللجوء.. وملف التونسية السورية وإجراءاتها قد دخل الآن عبر الوسيط والحليف ألأممي الروسي إلى المنظمة الدولية وتوابعها.
فالأمر في سوريا معقد للغاية، ولا يتوقع لتونسية “بشار” أن تقلع والأجواء غائمة ومضطربة ومختلف عليها إقليمياً وأممياً إلى هذا الحد، وإن كانت الكلفة البشرية والإنسانية في سوريا عالية للغاية ولا تعرف لذلك نهاية.
الحال في سوريا “الأسد” غيره في تونس “بن علي” ومصر “حسني مبارك” وليبيا “معمر القذافي”، وإن كان الحال في كل هذه البلاد لا يسر ولا ينبئ بأن الربيع العربي وإقلاع طائراته التونسية، كان محط أمل وطموح الكثيرين ممن صفقوا لتلك الطائرات، وهي تقلع برؤساء بلاد كانوا ضد شعوبهم سياسياً وديمقراطياً وعدم اعتراف بالحقوق.
إن كل هذه البلاد – أي بلاد ما يسمى بالربيع العربي – هي الآن في حالة عدم استقرار وعنف وانقلاب على الديمقراطية، فالجمهورية التونسية التي جرت فيها انتخابات عامة وتأسست عليها مؤسساتها الدستورية الجديدة، تعاني الآن من تمرد من البعض وتحريك الشارع التونسي بدعوى اغتيال شخصية معارضة لم تكتمل الإجراءات القانونية والقضائية فيها بعد.. فالسياسة لأسباب بعينها تسبق غيرها.. والحال كذلك لا ندري ما الذي سيكون عليه الحال، وقد اجتهد حزب النهضة، ذو الأغلبية السياسية والبرلمانية، في توسيع قاعدة الحكم والإدارة، لتحقيق المصلحة العامة في الجمهورية التونسية.
ومن يلقي النظر إلى ما يجري في جمهورية ليبيا الديمقراطية.. أي بعد زوال نظام “القذافي”، يجد أن ليبيا لم تستقر بعد، ولم تكمل هياكلها ومؤسساتها للعبور بالبلاد إلى واقع جديد، وهي ذات الموارد النفطية وغيرها.. وذلك كله يعزى إلى أمرين في الحد الأدنى هما:
– أولاً: غياب الخبرة والعمل المشترك عبر أكثر من أربعين عاماً كانت فيها ليبيا – أو الجماهيرية يومئذٍ – في يد “القذافي” وأبنائه.
– ثانياً: ظهور عناصر متمردة مسلحة وخارجة على سلطة الدولة.
وقد أثر هذا كله برأينا على عدم تحقيق ما كان يتطلع إليه الشعب الليبي ويتوقعه بعد زوال هيمنة النظام السابق ومغامراته التي أرهقت العلاقات مع الدول الإقليمية والدولية وبددت الأموال. فقد عرف “القذافي” يومئذٍ بذلك كله وزيادة.. غير أن الحال الآن ليس في أتم عافيته وهو ما نتطلع إلى تجنبه والقفز عليه، فالوقت يمر والظروف تتغير ولا يكفي أن “القذافي” قد رحل أو ركب التونسية مجازاً..!
ونأتي إلى نقطة أخرى كان لها ما لها من الصدى والإيقاع لأهمية الحدث (مصرياً) وإقليمياً ودولياً، وهي إقلاع تونسية الرئيس “حسني مبارك” ونظامه ثم نزولها في شرم الشيخ.. ومشافٍ ليست خارج البلاد، فكان الانتقال الديمقراطي عبر الثورة والانتفاضة والثورة الشعبية من نظام عسكري عرف بالديمومة المستمرة لثلاثين عاماً، ثم الأخذ بنواصي الأمور في دولة لها وجودها وتأثيرها في المنطقة.
لقد كانت ثورة (25) يناير 2011 المصرية التي أطاحت بالرئيس “مبارك”، ذات زخم وتعبير ديمقراطي كبير عند ما قام في البلاد نظام دستوري وديمقراطي منتخب، له مؤسساته الرئاسية والبرلمانية وغيرها، بيد أن ما انتاب تلك المرحلة الجديدة من تدافع سياسي بين النخب والأحزاب، جعل سفينة (أم الدنيا) كما قلنا مراراً تعبر إلى الشاطئ في مياه مضطربة وغير مستقرة.. وصولاً إلى ما وصل إليه فيما بعد.
وكما هو معلوم فقد كان حصاد ثورة (25) يناير لصالح التيار الإسلامي الذي وصل مرشحه السيد الدكتور “محمد مرسي” إلى المنصب الرئاسي، وكانت لهم السيطرة عضوياً على مجلس الشيوخ والجهاز التنفيذي.
وقد أثار ذلكم كله نقمة التيارات السياسية الليبرالية والعلمانية، فكانت تعبر عن ذلك بأشكال سياسية مختلفة، كلها غاضبة، والإعلام في مصر كان يعمل لصالح المعارضة أكثر من الحكومة.. وهي الظاهرة الأولى من نوعها في بلد كجمهورية مصر العربية..!
ورغم أن حكومة الدكتور “مرسي” كانت قد أعلنت احترامها للاتفاقيات الموقعة من حكومات مصرية سابقة كاتفاق (كامب ديفيد)، وتعترف بأن مصر دولة متعددة الأديان والأعراق والمواطنة تشمل الجميع.. إلا أن ذلك – في ما يبدو – لم يحقق التآلف والتصالح المرجو من الدول الأخرى، شأن الحال مع الأحزاب المصرية في الداخل.
وقد بلغ ذلك الاعتراض وعدم الرضا غير المؤسس بالكامل – وهناك صندوق للانتخابات – حده يوم انقلب الفريق “السيسي” وزير الدفاع في حكومة الدكتور “مرسي” والقائد العام للقوات المسلحة على السلطة في 30 يونيو 2013.. لتدخل جمهورية مصر العربية في مرحلة جديدة يجد فيها المراقب السياسي ملامح العودة بالكامل إلى ما قبل ثورة 25 يناير 2011م – أي نظام الرئيس مبارك العسكري..!
نظام الرئيس “مرسي” لم يكمل عامه الأول من دورته الرئاسية، وكان بالإمكان أن تكون هناك انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة لحل المشكل في سياقه الديمقراطي، ولكن الفريق “السيسي” ومن آزروه عسكرياً وشعبياً في حركة 30 يونيو 2013، قد وضعوا البلاد في نفق:
– إراقة الدماء وقتل الأبرياء في ميداني رابعة العدوية والنهضة وغيرهما.
– إدخال البلاد في هوة أمنية والعودة بها إلى إجراءات الطوارئ وحظر التجوال والاعتقالات والملاحقات والمحاكم.
وكان لذلك كله أثره السالب – بطبيعة الحال – على الشعب المصري واستقراره ومصالحه على مدى شهرين ونصف تقريباً، والكل (مكانكم سر..!) كما يقولون.. ولا يدري أحد إلى أين ينتهي الحال في ظل ما يجري – وهو لم يعهد في مصر تاريخياً تقريباً – ومعالجة سياسية وأمنية يقول عليها الكثيرون إنها غير راشدة ولا تلبي الغرض.
لكن، ومهما يكن من أمر، فإن هذا يقرأ على أنه (انتكاسة) أو (ردة) في حراك الربيع العربي وتونسياته، التي تقلع وعلى متنها رؤساء خلعتهم شعوبهم – كالرئيس التونسي “بن علي” والليبي “القذافي” واليمني “علي عبد الله صالح” والمصري “حسني مبارك” – وبقي “بشار الأسد” الذي لا ندري متى يركب التونسية والأجواء هناك غائمة وغير مستقرة.. وبعض الدول العظمى تتعاطى بملف التونسية التي يرجى لها أن تقلع من سوريا وعلى متنها “بشار الأسد” ورعيله..!
الربيع العربي بالنظر إلى هذا كله يحتاج إلى قراءة قوامها التجربة والموضوعية، فهل هو حلم يتعين تحقيقه في كل الأحوال، وبغض النظر عما يمكن أن يؤول إليه الحال.
صحيح بعض التجارب سالبة بحدة كما الحال في مصر وليبيا، ولكنها أقل حدة في تونس وإلى حد ما اليمن التي يوجد فيها حمل السلاح منذ عهد “علي عبد الله صالح” وبعده.. فالربيع العربي وطائراته التونسية كان ينتظرها البعض دون قراءة للأحوال الجوية.. أو موجبات الإقلاع الأخرى، فهناك بلاد كجمهورية السودان قال البعض يومئذإ تونسيتها هبطت والمسافرون عليها – وهم مسئولون كبار بطبيعة الحال – حزموا أمتعتهم ووضعوها على الخط الناقل إلى الطائرة..!
ومع مرور الوقت بدأ ذلك كله (أحلام ظلوط..!) ولظلوط أن يحلم.. غير أن الأمر يحتاج إلى قراءة واستكشاف للأحوال.. وهذا لا يعني أن التونسية قد تهبط يوماً ما وتحمل من تحمل.. ولكن في ضوء ما حدث في ليبيا ومصر تحديداً، فإن المرء يسأل كيف سيكون المآل في بلادنا إذا ما أقلعت التونسية من مطار الخرطوم..؟
هنا في بلادنا يقول العامة (لا بديل للسكة الحديد إلا السكة الحديد)، أي أن هناك خيارات ورجالات في السياسة كما في النقل والمواصلات لا بديل لها، وإن كانت قليلة فهي مثل السكة الحديد تماماً، وهي ناقل بري كانت له سمعته وما تزال .. وإن كان الأمر في بعض الأحيان كما يقول السيد إمام الأنصار وزعيم حزب الأمة القومي “الصادق المهدي” يحتاج إلى (بنشرة أو سمكرة..!)
وكذلك الأمر بالنسبة إلى أطروحة أو مشروع (الربيع العربي) الذي يلزمنا النظر إليه وقراءته بإمعان..!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية