المبادرة الروسية اخترقت الأزمة.. ولكن!
مبادرة روسيا بوضع سلاح “الأسد” الكيماوي تحت الرقابة الدولية، ثم إبادته بعد ذلك وإلزام “الأسد” بالإجراءات والقوانين الدولية الخاصة بالأسلحة النووية، قد وجد هذا ترحيباً من النظام السوري وقوى دولية إلا البيت الأبيض الأمريكي، الذي مازال يجري وراء قراره لضربة يقوم بها تنهي سلاح “الأسد” الكيماوي، الذي ثبت أنه استخدمه في منطقة (غوطة)، وأباد الكثيرين من السوريين، مما يعد جريمة إنسانية يصعب الصمت عليها.
لكن في الحالين.. قرار البيت الأبيض والمبادرة الروسية التي استبقته، هل يكفي فيهما تجنيب الشعب السوري – وهو مطلوب وزيادة – إبادة سلاح “الأسد” الكيماوي أو وضعه تحت الرقابة الدولية، والشعب في سوريا يباد ويرحل إلى خارج بلده بوسائل أخرى تستخدمها السلطة وحلفاؤها؟
الشأن بتقديرنا شأن صراع ومكاسب دولية، أكثر منه الرحمة بالإنسان والمنطقة من أذى جسيم متوقع. ذلك أن روسيا علاقتها بالنظام السوري ووقوفها دولياً لصالحه، معروفة رغم كل الذي يحدث هناك.. فهي لم يسبق لها أن قالت لـ”الأسد” (أرعوي).. أو وافقت على رحيل نظامه. ولذلك أسبابه في سياسة الاتحاد الروسي الخارجية الذي لا يريد لغريميه (أمريكا والاتحاد الأوروبي) الانفراد بالمنطقة اقتصادياً ودبلوماسياً وعسكرياً.. ولذا فإن قمة العشرين (G20)التي انعقدت في (ستراسبورج) الروسية مؤخراً، لم تحقق مطالب أمريكا والاتحاد الأوروبي في الشأن السوري، وقد سبق لهما أن أنهيا العقيد “القذافي” ونظامه عبر حصار وملاحقة جوية!
وأكبر من ذلك بطبيعة الحال كانت الهجمة القاسية على نظام الرئيس الراحل “صدام حسين” في العراق، والتي أطاحت به وأطاحت بمكتسبات الشعب العراقي يومئذٍ، ووضعته إلى الآن في حالة عدم استقرار وشقاء سياسي وصراع. وهذا كله فضلاً عن إقصاء نظام طالبان في أفغانستان والذي له مؤاخذاته وسيئاته أيضاً.
غير أن البيت الأبيض وحلفاءه الأوروبيين ومنذ ولاية “بوش” الابن، يرون في ذلك:
•بسط للسيطرة الأمريكية، وأمريكا بعد انهيار المعسكر الشرقي ينظر إليها كقطب أوحد في النظام الدولي الجديد.
•وأكثر من ذلك فإن الحرص على أمن الدولة العبرية وجعلها الأكثر قدرة على ترويع الآخرين، هو الحافز وراء ذلك، لاسيما وأن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية هذا دوره.
والرئيس “أوباما” الآن عندما يلتقط قفاز الكارثة الكيماوية في سوريا ويبذل جهوده سياسياً وتشريعياً في البيت الأبيض، للحصول على موافقة وتأمين لخطته في ضربة سريعة وشافية للمقدرة الكيماوية السورية، وبالضرورة قدرات النظام السوري أيضاً.. فإنه يريد أن يقول إنه ليس أقل حرصاً على أمن بلده وسمعتها الخارجية وقيادتها للمعسكر الغربي من الرئيس الأمريكي السابق “بوش” الابن.. وكذلك أمن إسرائيل بالدرجة الأولى وإن كانت تنعم بالهدوء والسلام مع سوريا منذ حرب يونيو 1967م، غير أنها – أي إسرائيل – تسعد بقرار إبادة السلاح الكيماوي السوري.. والنظام السوري نفسه إذا أمكن! ذلك أنه من داعمي حزب الله اللبناني ومن ذوي العلاقة والعقيدة الوثيقة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهما ممن تحتسبهما الدولة العبرية الأخطر أمنياً وسياسياً عليها.. وهذا صحيح. فالحرب التي شنتها على حزب الله وخسرتها أمامه، تعد الحرب الأولى التي تخسرها إسرائيل.. وغيرها متوقع.
مجلس الشيوخ الأمريكي – فيما يبدو – وقد خسر ما خسر اقتصادياً وسياسياً وأمنياً في سياسة “بوش” الابن.. وهو يعلن الحرب على ما كان يدعوه (الإرهاب) بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر – أيلول 2001م، نراه الآن يقدم (درجات ويؤخر أخرى) كما يقولون.. لاسيما وقد أطلق الاتحاد الروسي مبادرته التي وجدت ترحيباً من جهات كثر.. وقطاع كبير من المجتمع السياسي الأمريكي أبدى اعتراضه على ضربة “أوباما” المتوقعة وإن كانت بلا خسائر بشرية.
الرئيس “أوباما” وإن كان الآن في ولايته الأخيرة، يفكر في أن يحقق لنفسه مجداً عسكرياً وأمنياً وإنسانياً، بالقيام بتدمير الكيماوي السوري وتجريد السلطة في سوريا من أبرز وأخطر معيناتها في حربها ضد شعبها.
لكن – من قال: كل ما يشتهي المرء يدركه؟ ولو كان ذلك المرء بحجم وقامة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (القطب الأوحد) في حقبة ما بعد (البريسترويكا) وانهيار الاتحاد السوفيتي ثم المعسكر الشرقي.
إن ضرب الولايات المتحدة الأمريكية للسلاح الكيماوي السوري إذا ما حدث منها، سيكون رسالة إلى الآخرين بأنهم ليسوا بمنأى عن ذلك. والمقصود هنا الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تسعى جاهدة لامتلاك قدرات نووية. وسيشكل ذلك لا ريب تهديداً للأمن القومي في المنطقة بكاملها، وتحسب أن هذا ولروسيا مصالحها ومنافعها ووزنها في المنطقة، قد قامت بمبادرتها لتخترق الأزمة وتحل المشكل بموافقة حليفها – إذا صح القول – النظام السوري.. ففي ذلك حسب ما جاء في أجهزة الإعلام والدبلوماسية إنهاء للسلاح الكيماوي بهدوء، وعلى يدي الأمم المتحدة وليس الولايات المتحدة وبرضاء النظام السوري الحاكم في نفس الوقت.. فهنا تأخذ روسيا قصب السبق وتحرم غيرها من ذلك.
وفي الوقت عينه – وهذا حرى بالذكر – فإن المبادرة ستكون سنة حسنة وبداية لإخلاء المنطقة من الأسلحة الكيماوية والنووية بالحسنى، أي بوضع الأمم المتحدة يدها على ذلك (حيثما وجد) ثم إهلاكه وإبادته في آخر الأمر. ولن يستبعد ذلك دولة إسرائيل كما هو الحال الآن، فهي الدولة الوحيدة في إقليم الشرق الأوسط التي لها سلاح نووي ومنذ عشرات السنين، ولكنها تستمتع بحصانة لا يستمتع بها غيرها.. ولأسباب معروفة!
هذه كلها حسنات لا ريب ولكن؟ أين الإنسان والشعب السوري الذي ذاق الأمرين من هذا كله؟ في السنوات الماضية ومازال.
إن المبادرة الروسية وضعت جهدها كله (تقريباً) في تجنيب النظام السوري ضربة أمريكية، قد تلحق به ما لحق بالعقيد “القذافي”. أما “الأسد” الذي رحب بالمبادرة – ونظامها فقد ظلا بمنأى عما ينقص من شأنهما، ولو كان في ذلك ضياع الكثير من الأرواح كما حدث منذ أكثر من عامين ولا يزال يحدث. فالشعب السوري لا نصير له – والله المستعان.
الجدل والتنافس الدائر الآن على كل الأصعدة ليس سوى تحقيق مصالح ولكل حساباته. وهكذا هو النظام الدولي الحالي لا يُعني كثيراً ببني الإنسان، وإنما بمصالحه.. فأين نحن من دول أفريقية وآسيوية فقدت كيانها واستقرارها منذ سنوات طويلة كالصومال – مثلاً.. وباكستان وأفغانستان اللتان تضرب قبائلهما بطائرات بدون طيار.!
الولايات المتحدة معنية أكثر بسلامة جنودها ومواطنيها، أما الآخرون فلتفعل بهم المحكمة الجنائية الدولية ما تفعل وبترتيب وتنظيم منها، لأنها تتمتع بما لا يتمتع به غيرها من إمكانات أممية.. ولتفعل بهم الطائرات بدون طيار ما تفعل، طالما أن جنودها ومسئوليها العسكريين بعيدون عن ذلك.. ففي الأمر (خيار وفقوس) بأكثر مما ظل يعبر عنه السيد الإمام الحبيب “الصادق المهدي”.!
إن المبادرة الروسية التي رحب بها النظام السوري، نتطلع لأن تتبعها مبادرة أو إجراءات أخرى، تجنب الشعب السوري ما يحدث الآن، ولو كان ذلك خصماً على العلاقة التاريخية والمستمرة بين روسيا وسوريا. فلا يكفي أن تُجنب سوريا الضربة الأمريكية، وإنما أن يُجنب الشعب السوري مما استمر يجري هناك منذ سنوات، فالاستقرار وسلامة الأرواح أولى من غيرهما.