الرئيس «سلفا» .. للضرورة أحكامها..!
يوم مرور عام من استقلال جمهورية جنوب السودان، كانت هناك تقارير وشهادات من جهات لها اعتبارها، تقول إن الاستقلال أو الانفصال لم يكن نعمة. وأخص هنا ما قاله الدكتور “رياك مشار” نائب رئيس الجمهورية فقد قال:
(دولة الجنوب لم تحقق تطلعات الشعب الجنوبي بسبب الصعوبات التي لم تكن متوقعة).
وقالت المستشارة السياسية لمنظمة (أوكسفام) الخيرية البريطانية في ذلك التاريخ أيضاً، أي بعد مرور عام على الدولة الجديدة:
(الابتهاج بالانفصال قد بهت بريقه بفعل الصراع اليومي من أجل البقاء).
وأكثر من ذلك قالت المنظمة – (أوكسفام) – في تقريرها الذي صدر ونشرته الصحف في ذلك الوقت:
(دولة الجنوب تواجه أسوأ أزمة إنسانية منذ نيفاشا في 2005، وذلك بسبب الانهيار الاقتصادي الحاد والصراعات المستمرة).
(السكان يواجه نصفهم النقص في المواد الغذائية، وبمعدل يصل إلى ضعف ما كان قبل الاستقلال).
ولما كنت قد أوردت ذلك كله في تحليل سياسي لي، كتبته في 10 يوليو 2012 بصحيفة “الصحافة”.. ودولة الجنوب تدخل عامها الثاني (9 يوليو 2011م – 9 يوليو 2013م) ذكرت:
(إن دولة الجنوب الجديدة بعد هذا كله وأكثر ستلعب على مصالحها ومنافعها المباشرة التي منها عودة العلاقات بين البلدين – جمهورية جنوب السودان وجمهورية السودان- إلى طبيعتها)..!
والأسبوع الماضي في زيارة الرئيس “سلفا” إلى الخرطوم ولقائه مع الرئيس “البشير”، تقول نتائج ذلك اللقاء الإيجابية إن هذا ما حدث بالفعل، فالرئيس “سلفا” عندما جاء إلى الخرطوم كان يعلم، وبالتجربة، أن للضرورة أحكامها.. وشواهد التجربة خير دليل للعبور من الماضي إلى المستقبل، لا سيما إذا ما كان ذلك الماضي شاهد إخفاق وفشل بسبب ضغوطات من يعرفون في الحركة الشعبية SPLA بـ (أولاد قرنق)، وهم بحكم ما انتهوا إليه بعد وفاته (أولاد بالتبني..!) وليسوا من رحم فكره ومعتقده السياسي والدبلوماسي.. أي لم يرثوا منه شيئاً إيجابياً، فقد كان صادقاً في السلام وفي علاقته مع شركائه..
وساعة استقبال السيد “سلفا” في المطار وانحنائه للعلم السوداني – الذي لم يكن ليتخيله البعض – كان ذلك مؤشر علاقة جديدة ومكتملة الأركان.. وكذلك كان لقاؤه بزعماء المعارضة على انفراد، وحيث كانت لقاءاته واجتماعاته بالرئيس “البشير”، كان ذلك يقع في ذلك الإطار أيضاً أو أن الأمر جديد تمثل في العلاقات والمصالح المشتركة بين البلدين، الأمر الذي شدَّ الرحال من أجله..!
ولنصل بعد هذا إلى المحصلة أو النتيجة نعود إلى ما قال الرئيسان وأكدا عليه في تصريحاتهما المشتركة عقب المباحثات، ذلك أنهما:
أولاً: أكدا على قيادة الشعبين لآفاق أرحب، وأن الحدود بين البلدين ستكون مفتوحة أمام حركة البضائع والسلع.
ثانياً: وستكون العلاقة بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان أنموذجاً يحتذى به في أفريقيا..!
ثالثاً: انسياب بترول الجنوب عبر الأراضي السودانية إلى ميناء بورتسودان.. وبعد الاتفاق لا تحتاج الدولتان إلى دعم خارجي.
إن هذه المخرجات الثلاثة بتفاصيلها تعد عنصر نجاح كبير، رغم أن زيارة الفريق “سلفا” لم تزد عن (7) ساعات.. فقيادة الشعبين إلى آفاق أرحب وليس (انسداداً) كما كان البعض يشتهي ويعمل من أجله، بل وبإجماع الطرفين على أن تكون العلاقات بين البلدين أنموذجاً في القارة الأفريقية.. يجد المراقب أن ثمة ثقة بما انتهى إليه الاتفاق بين الطرفين، وبخاصة عندما يرد على لسان الرئيسين أنه بعد الاتفاق لا يحتاج البلدان إلى دعم خارجي.
وفي ضوء هذا فإن تطلعات أهل الجنوب التي لم تتحقق في العام الأول للانفصال، جراء الصعوبات كما أكد الدكتور “رياك مشار”.. والإشهار بالانفصال الذي بهت بريقه، كما قالت مستشارة (أوكسفام) ، بل والانهيار الاقتصادي كما قال تقرير المنظمة المذكورة، والنقص في المواد الغذائية …الخ، هذا كله سينتهي بالترتيبات التي تم الاتفاق عليها، إذا ما خلصت النوايا.. وسلمت النفوس وتعافت.
الرئيس “سلفا” قال وبالحرف الواحد إنه لن يغلق الحدود مع السودان، فمواطنو الجنوب ينظرون فتح الحدود لدخول البضائع والسلع السودانية. أي بعبارة أخرى – كما ورد في تقرير المنظمة الخيرية البريطانية أوكسفام – (السكان في الجنوب يواجه نصفهم النقص في المواد الغذائية وبمعدل يصل إلى ضعف ما كان قبل الاستقلال). وعليه الفريق “سلفا” يعلم ذلك حين قال: (مواطنو الجنوب ينتظرون فتح الحدود لدخول البضائع والسلع السودانية).
ولكي لا تغلق الحدود يعني ذلك أن ما كانت تقوم به بعض حركات التمرد – وقد كانت تتخذ لها من جوبا والجنوب إجمالاً مقراً وممراً – لن يحدث بعد تطبيق وتفعيل ما اتفق عليه الأسبوع الماضي.. والشيء ذاته سيكون بالنسبة لانسياب بترول جمهورية جنوب السودان عبر أراضي جمهورية السودان إلى موانئ التصدير على البحر الأحمر.. فهو الذي سيجنب البلاد مشكل الانهيار الاقتصادي الذي سبق أن أشارت إليه المنظمة البريطانية (أوكسفام).
وهنا في الخرطوم سيكون لذلك كله أثره الإيجابي على الأمن القومي وعلى الاقتصاد بطبيعة الحال، إذ مجرد أن تم الاتفاق على مرور نفط الجنوب عبر الخطوط والأنابيب والموانئ في السودان، بدأ بنك السودان المركزي يطلق الآمال والتطلعات، فالعائد هذه المرة سيكون كبيراً ومستمراً.. ويفتح الحدود للسلع والبضائع وسائر الأنشطة التجارية، وهي ذات مردود ستتبعها عمليات اقتصادية وتنموية أخرى، مما يجبر سعر العملة السودانية ويفتح الباب للأنشطة البنكية وغيرها كما الاقتصاد بشكل عام.
وفي هذا الإطار كله نحسب أن (أحكام الضرورة) لم تكن واردة في أجندة وفكر الرئيس “سلفا” وحده.. فالكل يخضع لذلك، وبشكل خاص أحزاب المعارضة السودانية التي كانت تعرف بـ (تجمع جوبا).. ذلك أن جوبا بعد اتفاق الثلاثاء من الأسبوع الماضي لم تعد جوبا التي كانت في الماضي ملاذاً ومدداً وعنصر دعم لمجموعة كاودا وغيرها.
ويشار هنا بالذكر والإشادة إلى الإفادات التي أدلى بها الدكتور الترابي – أمين عام المؤتمر الشعبي – إذا قال وبالنص، كما جاء في الصحف:
(إنه يثني على اللقاء ويستبشر بمصير البلدين، فالشعبان الآن أدركا أن علاقتهما أكثر مما كانا يريدانه عند الانفصال).
ولعل تلك كلمة حق وصدق وتفاؤل مما لم يتوقعه البعض في ظل تصريحات و(تخريمات) ومناشط السيد “كمال عمر” التي تصب كلها وتعلق الآمال على (جوبا الماضي)، أي جوبا ما قبل الاتفاق الأخير ما بين جمهورية السودان جنوب السودان وما حدث فيها من مفاجآت. والإحالة هنا إلى انحناءة الفريق “سلفا” أمام العلم السوداني وهو يُستقبل في زيارته التي طال توقعها وانتظارها، والسيد باقان يومئذ يضع العقبات والمشكلات للإحالة بين البلدين ومصير يعوّل عليه وتحفه مصالح ومنافع مشتركة، كما جاء في اتفاق الأسبوع الماضي، وإن كانت (أبيي) لا تزال معلقة، لكن الطرفين عبرا ذلك بالتوصل إلى اتفاق عاجل بشأن المؤسسات المدنية الانتقالية، بما يمهد الطريق للوصول إلى تسوية نهائية.
وما يذكر هنا دليلاً على الصدق وتوحيد الرؤى وحماية المصالح المشتركة، هو ما جاء في الاتفاق ويعد تغييراً في المواقف.. حيث أنهما اتفقا على المخاطبة المشتركة للمجتمع الدولي لإعفاء ديون السودان بدعم من الآلية الأفريقية رفيعة المستوى.
ومن يقرأ مخرجات الزيارة لا بد أن يخلص إلى القول بأن الصعوبات التي كانت تنال من الطرفين في الماضي قد ولى زمانها، وصارت الجماعات المتمردة كلها وأولئك الذين كانوا نافذين في الداخل ولهم علاقاتهم وصلاتهم المعروفة بالخارج، في وضع لا يحسدون عليه الآن.. بل كان الضربة الثانية بعد أن أعاد الرئيس “سلفا” بناء مؤسسات الدولة في الجنوب، بما فيها تلك التنفيذية والعليا التي كان ينطلق منها ذلك البعض للكسب وأذى الآخرين..!
إن المعارضة ذات الأهداف السالبة تبدو بعد هذا الاتفاق ونقاطه الإيجابية في حيرة من أمرها، وهي التي دبرت من قبل الهجوم على هجليج وعرقلت تدفق النفط وسعدت بالهجوم على (أبو كرشولة) في جنوب كردفان وأم روابة في شمالها.. ومناشط مماثلة في جنوب النيل الأزرق.
ذلك عسكرياً واقتصادياً.. أما سياسياً فقد فُقدت في الداخل قدرة أعضاء وداعمي مؤتمر كاودا.. فهؤلاء الآن بلا حيوية وآمال عريضة كانوا يعولون عليها في إسقاط الحكومة عبر المصاعب التي كانت تعتريها اقتصادياً ودبلوماسياً وسياسياً، بخاصة وأن حزب المؤتمر الشعبي عبر أمينه العام الذي التقى الرئيس “سلفا”، قد أثنى على اللقاء الذي ذكر أنه يبشر بمصير البلدين، فالشعبان أدركا أن علاقتهما الآن أكثر مما كانا يريدانه يوم الانفصال، فالمؤتمر الشعبي كان له دوره، عبر السيد “كمال عمر” في النشاط المعارض داخلياً وخارجياً، عدا النشاط العسكري.
هذه قراءة سريعة وتحليل سياسي صحفي لزيارة الرئيس “سلفا” ولقائه بالرئيس “البشير” ومخرجاتها وانعكاساتها بالضرورة على العلاقة بين الشعبين وعلى آمال وطموحات المعارضة التي كانت قد حددت إسقاط النظام بمائة يوماً تنقص ولا تزيد..!!