انقلاب المقدم «حسن حسين» في (5) سبتمبر 1975 (حركة) ضد «النميري» لم تكتمل:
كنا صغاراً، وكان اليوم يوم (جمعة).. كنا نسكن مدينة ود مدني، بحثنا عن جهاز تلفزيون لنشاهد (ماما أمينة) و(الجد شعبان) و(عم جحا) في برنامج جنة الأطفال، انتظرنا أن يعمل التلفزيون فقد قاربت الساعة الثامنة والنصف، وكان الإرسال يبدأ يوم الجمعة الساعة الثامنة صباحاً، وهناك في جزء من المنزل كان والدي يمسك المذياع وحوله والدتي وأخوتي الكبار، سألنا ونحن لا ندري ماذا حدث فقالت لنا والدتنا رحمها الله: (في انقلاب). كنا لا نعرف معنى كلمة انقلاب، ورجعنا إلى التلفزيون على أمل عودة الإرسال ومشاهدة جنة الأطفال.
سألني أخي الأصغر وهو الآن طبيب: ما معنى انقلاب؟ فأجبته حسب فهمي أن هناك عربة انقلبت في الطريق لهذا الإرسال لم يصلنا، وبعد قليل ابتدأ الإرسال بمارشات عسكرية، ورأينا حشوداً من القوات المسلحة، ثم سمعنا من المذياع صوتاً جهوراً يؤكد حقيقة الانقلاب.. سألت والدي- رحمه الله: لمن هذا الصوت؟ فقال لي: إنه المقدم «حسن حسين». قلت: لماذا يتحدث؟ فقال لي: ده رئيس السودان الجديد.. فذهبت إلى أخوتي باعتباري أكبرهم قائلاً لهم: جاءنا رئيس جديد مع «نميري».
كان هذا أول انقلاب عايشته، وكبرنا وعرفنا من هو «حسن حسين»، وعرفت وتشرفت غاية الشرف بمعرفة القاضي القامة «عبد الرحمن إدريس».. تم كل هذا بواسطة الحكمدار «الطيب أحمد حسين».. وبالمناسبة «الطيب أحمد حسين» هو أول ضابط بوليس في السودان، وثاني ضابط بوليس بعد «محمد سياد بري» يقود انقلاباً وهو ضابط شرطة، فالانقلابات في أفريقيا يقودها أبناء القوات المسلحة..
{ شهادة ضابط التحقيق
وقبل الاسترسال في الانقلاب لنرى ما سطره العميد «الطيب المحينة» ضابط التحقيق في الانقلاب في حق هؤلاء الضباط حيث قال:
(كثير من الرجال قاموا بانقلاب 5 سبتمبر 1975م، كانوا يتحلون بأقصى درجات الشجاعة والصمود.. وأذكر أن المقدم «حسن حسين» كان شجاعاً جداً، وكان ثابتاً لم يتزحزح ثباته لحظة واحدة طيلة فترة التحقيقات وأثناء المحاكمات، وقد استقبل قرار إعدامه بكل هدوء، وطلب إعطاءه ورقة وقلماً وكتب لزوجته وأهله وصية وسلمها للمسؤولين وقال لهم: أنا جاهز للإعدام. وكان «عباس برشم» شجاعاً أيضاً، فقد قال في التحقيق وفي المحكمة أيضاً وبالصوت العالي: أنا ضد النظام. وإنه تآمر على السلطة، وإنه على استعداد تام للتحالف مع الشيطان لإيقافها، لأن التغيير أصبح واجباً).
– صحيفة (النهار) مايو 1988، نُِشر في كتاب الانقلابات العسكرية في السودان للصحفي «محمد محمد أحمد كرار» صفحة (113).
علينا أول الأمر أن نتساءل ما علاقة القاضي «عبد الرحمن إدريس» بالحكمدار «الطيب أحمد حسين» وما علاقتهما بالشهيد «حسن حسين»؟!
نبدأ أولاً بعلاقة الرأس المدبر للانقلاب «عبد الرحمن إدريس» بـ»الطيب أحمد حسين».. في بداية عقد الستينيات تم تعيين الحكمدار «الطيب أحمد حسين» قبل دخوله كلية الشرطة معلماً، وكان ذلك في المرحلة الثانوية، وكان هناك تلميذ نحيف الجسم ولكنه ذو ذكاء حاد يسمى «عبد الرحمن إدريس».. مرت الأيام ودخل «عبد الرحمن إدريس» كلية القانون وتخرج وعمل معاون قاضٍ، ثم ترك «الطيب أحمد حسين» التعليم واتجه نحو العسكرية، فدخل كلية الشرطة.. توطدت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه، فكان يزور أستاذه في مكتبه.. وهناك أمر مهم يسألني عنه الله يوم القيامة، أن مولانا «عبد الرحمن إدريس» أثناء الجلسة التي جمعتني به مع الحكمدار «الطيب أحمد حسين» لم يقل «الطيب» إلا وأمامها كلمة أستاذ. أثناء زيارتهما المتكررة لبعضهما البعض.. أسرّ «عبد الرحمن إدريس» لـ»الطيب أحمد الحسين» بنيته لتغيير الحكم العسكري لـ»نميري» ولو بالقوة.. كان الحكمدار «الطيب أحمد حسين» يفكر في نفس الأمر، وكانت المشكلة تكمن في أنه لابد من إحضار ضابط محترم في القوات المسلحة. كانت علاقة «الطيب أحمد حسين» بالمقدم «حسن حسين عثمان» أكثر من جيدة، فتحدث معه وكانت الموافقة الفورية من جانبه، حيث وضع نائباً لرئيس المجلس العسكري وكان العقيد «محمد نور سعد» هو رئيس مجلس الانقلاب، ولكن يبدو أن أجهزة مايو ارتابت فيه فأرسلته في بعثة إلى موسكو.
وصل المقدم «حسن حسين» إلى الإذاعة، التي كانت فيما بعد السبب الرئيسي في فشل الانقلاب لعدم التزام الملازم «حماد إحيمر» بالتعليمات كما سنعرف فيما بعد.. وأثناء استعداد المقدم «حسين حسين» لإذاعة البيان اكتشف ضياع البيان.. تم إعداد بيان آخر بواسطة «عباس برشم» رئيس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وفعلاً قام المقدم «حسن حسين» بإذاعة البيان التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين.. هو الأول والآخر والذي به وحده النصر، وهو وحده الآخر من قبل ومن بعد..
أيها المواطنون.. السلام عليكم ورحمة الله أجمعين
وبعد..
حين قامت ثورة مايو وعدت الناس بالحرية وبالعدل وبالوحدة الوطنية وبالاستقرار والبناء والرخاء، فكان نصيب الحريات في مهدها القهر والاضطهاد منذ البداية، فصادرت الحرية في مهدها، وحرية الفكر والتعليم، وأمّمت الصحف، وأغلقت الجامعة الإسلامية، وأغلقت منابر الحرية في جامعة الخرطوم في الوقت الذي أطلقت فيه أيدي الانتهازيين الفاسدين والعملاء والسفهاء، سقط المخلصون المجاهدون ضد الاستعمار في سبيل استقلال.. سقطوا جماعات جماعات، وظلت السجون وما زالت ممتلئة بأخيار الناس، وتحولت بذلك جمهورية السودان الديمقراطية إلى جواسيس بوليسية لا يفصح الناس عن شكواهم إلا بعد التلفت وفي أمن، كما صودرت حرية المواطنين السياسية، وصودرت كذلك أموالهم، وشردوا من أعمالهم حتى ملأوا الآفاق، وأزهقت أرواحهم، ودفنوا أمواتاً ووري التراب أحياناً عليهم، ولم تترك الثورة المشئومة دعامة للعدل إلا وهدمتها، واضطهدت وقهرت المواطنين في أنحاء السودان المختلفة، وأعلنت بذلك أنها حققت الوحدة الوطنية، وحين امتدت أيدي إخواننا الجنوبيين إلى الشمال لم تمد لهم الثورة المشئومة أيدي مرفوعة لتصافحها إلا أيدي قذرة مرتعشة ملطخة بالدماء، ثم أحالت تلك الثورة المشئومة ما كان يرجى من استقلال إلى فوضى واضطراب غرقت فيه أجهزة الحكم جميعاً، واكتسحت موجاته العاتية حرمة القضاء وتماسك البوليس وكرامة الخدمة المدنية، وغزت صفوف الجيش وأفقدته صفته اللازمة في ربطه وانضباطه، وأفسدت أجهزة العلم والتربية، ثم صادرت أموال الناس واغتصبتها، وجمعت الضرائب حتى من أفواه الجائعين، وبعثرت كل ذلك متعاً على موائد احتفالاتها وكياناتها، وحلّ الشقاء والغلاء محل وجود الرخاء، وصادقت قوانينها على ذلك في ضلال، وكنا لهم بالمرصاد، ولم يسمعوا لنصح واستكبروا استكباراً.
أيها الشعب السوداني الكريم نيابة عنكم آمر بالآتي:
أولاً: حل الاتحاد الاشتراكي.
ثانياً: حل مجلس العشب.
ثالثاً: حل مجلس الوزراء.
رابعاً: حل جهاز الأمن القومي.
خامساً: حل توتو كورة.
ونيابة عنكم آمر بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين في السجون.
أيها الشعب السوداني.. مبادؤنا التي أقدمها لتلتزموا بها وتلتفوا حولي هي:
أولاً: استقلال الجامعة.
ثانياً: استقلال القضاء.
ثالثاً: حرية الصحافة.
ربعاً: حماية البلاد من الفاشية.
خامساً: إقامة ديمقراطية سليمة.
استودعكم الله في رحاب الديمقراطية الوطنية.. والسلام عليكم ورحمة الله..
– من هو «حسن حسين»؟
قلت للحكمدار «الطيب أحمد حسين» بأن (99%) من الشعب السوداني لم يسمعوا بـ»حسن حسين» إلا يوم 5 سبتمبر.. خلال معرفتك به من هو؟
قال: هو أحد ضباط القوات المسلحة، وكان مثالاً لضابط القوات المسلحة المؤمن بقضية وطنه، بل أعدّه من أعظم الضباط الذين عرفتهم فقد كان رجلاً ذا مبدأ، وكان شجاعاً لا يخاف في الحق لومة لائم.. كان يقيم فروض الله في أوقاتها، وكان ملتزماً دينياً حتى أنه في فترة معرفتي به لا يعرف الخمر أو النساء برغم صغر سنه.
قلت له: هل كان (أخ مسلم) كما أشيع عنه؟
أجابني الحكمدار بقوله: المقدم «حسن حسين» لم يكن في يوم ما (أخو مسلم)، بل كما ذكرت، كان يتقي الله في كل أعماله، وهذا ما أؤكده أنا وعلى لساني.
وقع اختيار قادة الانقلاب على القاضي «عبد المجيد إمام» لرئاسة الوزارة- دون علمه- حيث كان القاضي «عبد المجيد» النائب العام، وكان قمة في الأمانة والنزاهة، ويبدو أن اختياره جاء بواسطة القاضي «عبد الرحمن إدريس».
طلب المقدم «حسن حسين» باعتباره قائد الانقلاب من الملازم «إحيمر» المرابطة أمام الإذاعة وعدم مغادرتها حتى في حالة فشل الانقلاب، ولكن الملازم «إحمير» في غمرة ظنه بنجاح الانقلاب تحرك نحو سجن كوبر بالدبابة الوحيدة، وكشف ظهر الانقلاب وكان السبب الرئيسي في فشل الانقلاب.. وبالمناسبة «إحيمر» هو صديق لـ»نميري»، إبان انقلاب «هاشم العطا» في عام 1971م قام بإنقاذ «نميري» حيث كان جندياً بالقوات المسلحة، وبعد فشل الانقلاب الذي استمر ثلاثة أيام أصدر «نميري» قراراً بترقية «حماد إحمير» إلى رتبة الملازم، وبعد أن توفي «إحمير» أثناء الانقلاب وورد الأمر إلى «نميري» حزن حزناً شديداً وأمر بدفنه في مقابر (حمد النيل) كنوع من الوفاء له.
{ المجلس العسكري:
أجاز قادة الانقلاب المجلس العسكري ليحكم السودان لمدة ثلاثة أعوام من:
العميد/ محمد نور سعد – رئيساً
مقدم/ حسن حسين عثمان – نائباً للرئيس
رائد/ حامد فتح الله – عضواً
عقيد/ أحمد عبد القادر أرباب – عضواً
رائد/ محمد علوب – عضواً
نقيب/ محمد محمود – عضواً
ملازم أول/ عبد الرحمن شامبي – عضواً
حكمدار شرطة/ الطيب أحمد حسين – عضواً
قد يتبادر إلى الذهن أين كانت تتم اجتماعات قادة الانقلاب؟ يقول «الطيب أحمد حسين» إن جميع الاجتماعات كانت تتم في أماكن عامة حتى لا تلفت أنظار جهاز الأمن، ومن بين تلك الأماكن عربة البوليس المخصصة للحكمدار «الطيب أحمد حسين».. وعقب فشل الانقلاب أصيب المقدم «حسن حسين» في رجله في القيادة العامة، أما «عبد الرحمن إدريس» فتم القبض عليه في مكتبه يوم الأحد 7/9/1975م بالهيئة القضائية، والحكمدار «الطيب أحمد حسين» تم القبض عليه من مكتب الحكمدار ببحري، وقام بإجراءات القبض المقدم آنذاك المرحوم «عمر غلام الله».
{ وادي الحمار:
ثم ترحيل قادة الانقلاب، باستثناء «عبد الرحمن إدريس»، إلى المدفعية عطبرة، حيث تمت إجراءات المحاكمة، وتم ترحيلهم إلى (وادي الحمار) بعطبرة، وهو سجن في صحراء لا مجال فيها للهرب.. سألت الحكمدار «الطيب أحمد حسين» كيف كان التحقيق؟ وهل تعرضتم للضرب؟ فأجابني: إن الوحيد الذي تعرض للضرب هو المقدم «حسن حسين».. أما في التحقيق الذي كان يقوده العميد «المحينة»: شهادة لله أنه كان في غاية الاحترام، لم يستعمل معنا أي أسلوب مشين.. جرت محاكمة المجموعة الأولى، التي بها المقدم «حسن حسين» و»عباس برشم» وآخرون، وأصدرت المحكمة الأحكام الآتية:
المقدم/ حسن حسين عثمان – الإعدام
رائد/ حامد فتح الله – الإعدام
نقيب/ محمد محمود التوم – الإعدام
ملازم أول/ عبد الرحمن شامبي نواي – الإعدام
وكيل عريف/ أحمد المبارك أحمد – الإعدام
عباس برشم (ملكي) – الإعدام
مجذوب النميري (ملكي) – الإعدام
ترأس هذه المحكمة العقيد «خالد الأمين الحاج».
{ الملازم أول/ «عبد الرحمن شامبي نواي»
من قادة الانقلاب، ولعب دوراً مؤثراً في تحديد ساعة الصفر.. قام بتجنيد عدد من أفراد القوات المسلحة من ضباط وضباط الصف.. عقب فشل الانقلاب هرب، وحكاية هروبه والقبض عليه لعبت فيها الصدفة دوراً كبيراً، حيث روى لي عمنا «محجوب التوم»- رحمه الله- الذي كان تاجراً في مليط قصة هروبه إلى مليط، حيث قال:
فوجئنا ذات يوم بقدوم شاب في مقتبل العمر يظهر عليه الإعياء.. قمنا باستضافته في أحد المنازل، لم نسأله عن اسمه.. مكث أياماً معنا وظهرت أشياء غريبة، حينما كنا ندير المذياع كان يقوم من مكانه، وعند سؤالنا له: أين تذهب؟ يقول: ذاهب إلى الصلاة.. كان يرتدي أحجبة في ذراعه.. حدثت مشكلة في سوق مليط، وكان هو أحد شهود هذه المشكلة، ذهبوا إلى القسم أو النقطة التابعة للبوليس، وأثناء سؤاله شك مساعد الشرطة، وكان جهاز أمن «نميري» قد عمم في ذلك الوقت نشرة كتب عليها خطر وكانت بها صورة «عبد الرحمن شامبي».. ارتاب فيه مساعد الشرطة، وعند تفتيشه وجد الأحجبة وعند فتحها وجد أوراقاً تخص الانقلاب فتم التبليغ عنه.. عند وصوله إلى مكان الإعدام خطف بندقية (كلاش) من أحد الجنود وأراد إطلاق النار، ولكن لسوء حظه كانت دون ذخيرة.. أما كيف قتل، فشهود الواقعة يؤكدون أنهم قاموا بقتله بواسطة دبابة، حيث قامت بسحقه.. وبذلك انتهت فصول قصة الملازم «عبد الرحمن شامبي نواي».
{ هل 5 سبتمبر حركة عنصرية؟
سمّاها نظام مايو حركة عنصرية، لأن كلّ أو جلّ أفرادها من كردفان، وبسبب هذا الانقلاب عانت كردفان كثيراً من التهميش.. وإذا كان مقياس «نميري» هكذا، فإن أغلب انقلابات السودان قادها أبناء الشمال.. هل معنى ذلك أنهم عنصريون؟!
{ القاضي/ «عبد الرحمن إدريس»
ذكرنا من قبل أنه عراب الانقلاب.. كان ولا زال ذا ذكاء حاد وشخصية قوية، جمعته سنوات الدراسة بالحكمدار «الطيب أحمد حسين»، حيث كما ذكرنا كان هو التلميذ و»الطبيب» المعلم.. تم القبض عليه في مكتبه.. رُحل في رمضان إلى سجن كوبر.. وما أدراك ما سجن كوبر. في منتصف شهر رمضان وبينما كان الجميع يستعد للإفطار طلب من الحرس دخول الحمام وكان له ما أراد، ظن الجميع أنه في الحمام، بينما كان قد هرب بواسطة شباك الحمام، وذهب إلى البطانة واختفى هناك فترة، ثم سافر إلى أثيوبيا، ومنها إلى ليبيا.. عاد مع المصالحة الوطنية وعُين حاكماً لدارفور.. سألت مولانا «عبد الرحمن إدريس»: مع من كان يختبئ تلك الفترة في أرض الكنانة؟ فرفض الإجابة وقال لي بالحرف: (ده سر) لن أبوح به مهما كانت الظروف. وقال لي: لو كنت قدمت للمحاكمة لحدثت إعدامات لم يشهدها السودان، وكان أول من تطاله الإعدامات الحكمدار «الطيب أحمد حسين» وزير داخلية 5 سبتمبر 1975م.
سألت الحكمدار «الطيب أحمد حسين»: «نميري» حكمه عسكري، والانقلاب ذو خلفية عسكرية فهل سيقوم السودانيون بتغيير نظام عسكري بنظام عسكري أي كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ فقال لي: إن هدفنا تسليم السلطة إلى الشعب، وهدفنا أن يكون الجيش ضامناً للديمقراطية.. قلت له: لا أفهم. قال: نريد استجلاب التجربة التركية في السودان، وهذا ضامن ألا يتدخل الجيش في السياسة.
{ كيف نجا المساعد «عبد الرحمن جلجال» من الإعدام؟
هو أحد المشاركين في الانقلاب، قام أيضاً بتجنيد عدد من الجنود.. عند فشل الانقلاب علم «نميري» أن من بين المشاركين «عبد الرحمن جلجال».. وكان «جلجال» قد قام بتعليم «نميري» في الكلية الحربية.. حكمت المحكمة بإعدام «جلجال»، وصادق «نميري» على كل الإعدامات إلا «عبد الرحمن جلجال».. وهكذا يرد «نميري» الوفاء لمعلمه، وبذلك نجا «عبد الرحمن جلجال» من الإعدام.
{ «بكري عديل»
أحد قادة حزب الأمة.. والرواية كما يقصها الحكمدار «الطيب أحمد حسين» أن «بكري عديل» يسكن الثورة، وأقرب شخص له النقيب «قاسم هارون» شقيق «أحمد هارون» والي شمال كردفان الحالي.. كان «قاسم» مشاركاً في الانقلاب، وكان طياراً- عليه رحمة الله- يقول عنه الحكمدار «الطيب: (ما قابلت أعظم منه).. بحكم السكن جاء «بكري» إلى «قاسم» في منزله، والذي كان لم يُبلغ بساعة الصفر، جاء إليه يطلب عربته ليذهب إلى المستشفى لعلاج ابنته، وقام «قاسم» بإعطائه العربة. وفي الطريق أدار «بكري» الراديو فسمع بالانقلاب، وقام بإرجاع ابنته وذهب بالعربة إلى القيادة العامة وتم القبض عليه وحكم عليه بالسجن خمس سنوات.
قلت له: سعادة الحكمدار معنى ذلك أن «بكري عديل» لا علاقة له بالانقلاب؟
فأجابني: نعم.
سألت نفس السؤال لمولانا «عبد الرحمن إدريس» فقال لي بالنص: اسألي أستاذ «الطيب».
{ كيف تم ترحيل قادة الانقلاب من عطبرة إلى كوبر؟
يواصل الحكمدار روايته ويقول: عقب صدور الأحكام، تم ترحيلنا في قطار– بتاع بهائم- حسب وصفه، وتم الزج بنا في كوبر.. أما عن المعاملة داخل كوبر فيقول: كانت معاملة راقية للغاية، احترمنا الجنود كثيراً، بل كانوا يؤدون لنا التحية العسكرية، حتى بعد أن صدر قرار بعزلنا من الخدمة، كانت الصحف متوفرة والكتب كذلك، وكل ما نحتاجه عن صدى اشتراك ضابط شرطة في الانقلاب، ولما جاءوا بالورقة إلى «نميري» ومذكور فيها الحكمدار «الطيب محمد حسين» قال لهم: كمان ناس البوليس بقوا (……) وعايزين يقلبوها.
(احتفظ بلفظ نميري)
غضب الحكمدار لهذا الوصف وقال لـ»المحينة»: لو خرجت اليوم ووجدت انقلاباً آخر سأشارك فيه.
{ أسرار:
من الملاحظ أن كل فرد في الانقلاب لم يورط أي أحد آخر، خاصة المقدم «حسن حسين» الذي رفض أن يزج بأي اسم رغم الضغوط التي مورست عليه، وعند مقابلته مع «الطيب أحمد حسين» بحضور «المحينة» هاج الحكمدار قائلاً لـ»المحينة»: ما فعلتموه بالمقدم لن يمر مرور الكرام. فقال لي: بالرغم من إطلاق النار عليه والإعياء، بل كان جائعاً، لم يخرج منه أعضاء التحقيق بأية كلمة.. وهذه شهادة للتاريخ.
أثناء حواري مع القاضي «عبد الرحمن إدريس» متعه الله بالصحة شعرت أن الرجل يحمل مخزن أسرار، وأؤكد بأن ما خرجت به لا يساوي قطرة في بحر، كما حاولت استنطاق العميد «الطيب أحمد حسين» ولم أخرج منه إلا باليسير.
قلت للحكمدار: كيف تريدون الاستيلاء على جميع الوحدات علماً بأن بينكم جنوداً قد لا ينصاع لهم الضباط وقد تحدث مجزرة؟
قال: الخطة الرئيسية للانقلاب، وهو السبب الذي أجل ساعة الصفر عدة مرات، هي أن يقوم كل ضابط مقام الضابط العظيم، بمعنى آخر، أن هؤلاء الضباط يكونون في الخدمة في ذلك اليوم، وبذلك نضمن الوحدة العسكرية دون إطلاق رصاصة واحدة.. شيء آخر، عندما كان المقدم «حسن حسين عثمان» بالقيادة لم يطلق رصاصة واحدة، ولم يحاول الهرب، وتمت إصابته عمداً.
إن من ذهبوا إلى مقصلة الإعدام، ذهبوا من أجل فكرة آمنوا بها، ووجب علينا احترامهم ورد اعتبارهم.. الشهيد «حسن حسين» سلوكه كان قويماً.. ودعوني أسأل: مولانا «عبد الرحمن إدريس» هل سعت إليه أية جهة وهو يسكن في منزله بالثورة؟ الحكمدار «الطيب أحمد حسين» ما زال مولعاً بالقراءة والتنس.
رحم الله الجميع رحمة واسعة.. قصدت أن أقدم صورة أخرى لهؤلاء الرجال، قد نختلف معهم وقد نتفق، ولكن لا نختلف في وطنيتهم.. أكرر.. إن الذين ما زالوا على قيد الحياة هم مستودع للأسرار.