يا أهل السودان.. انتبهوا!!
كُنا في ميعة الصِّبا، أيام لم نعرف من الدنيا سوى مرح السرور وقطف تيجان الزهور، كما قال الراحل الشاعر التونسي “أبو القاسم الشابي”، والمكان كان مدينتنا الجميلة عروس مدن السودان في ذلك الزمان الجميل في ستينيات القرن الماضي، مدينتنا الصغيرة كنا نسميها (أكسفورد السودان) نشبهها بـ(أكسفورد بريطانيا) بسبب معهد التربية ببخت الرضا الذي تأسس زمن الاستعمار البريطاني، وكان الكبار من أهلنا يقولون إن الإنجليز أرادوا المعهد شكلاً ومضموناً مثل (أكسفورد) والذكريات صدى السنين الحاكي، دعونا نجتر تلك الذكريات والتي عبرها ندرك أننا فرطنا في وطننا الصغير (الدويم) وفرطنا في وطننا الكبير (السودان) الذي أشبهه بالأم التي ينزع بنوها كل يوم قطعة من ثوبها حتى كادوا أن يكشفوا عورتها بدلاً من أن يتباروا في كسوتها بالحرير والديباج، مالنا صرنا هكذا يا أبناء السودان؟ هل هي لعنة هبطت علينا؟ أم أن شيطاناً يوسوس في عقولنا وجعلنا نصير إلى ما نحن عليه الآن؟ كانت (الدويم) حاضرة كل قرى ومدن النيل الأبيض، والزراعة كانت حرفة الغالبية العظمى من السكان ومواسم الحصاد تترى من محاصيل الذرة والقطن والقمح والبصل والبقوليات بأنواعها والبطيخ والشمام والخضروات لا سيما الطماطم.. عرفنا (المطمورة)، وهي عبارة عن حفرة كبيرة نخزن فيها الذرة وأخرى للقمح، وعرفنا زيت السمسم وسمن الماعز والزرايب الصغيرة الملحقة بالمنازل تزخر بالضأن والماعز والأبقار والدواجن والدجاج الرومي، وعرفنا (المرحاكة) تلك الطاحونة الحجرية التي ورثناها منذ آلاف السنين نطحن فيها الذرة لعجين الكسرة، بالمناسبة كنت أعمل في تلك (المرحاكة) وللذين لا يعرفونها هي آلة بسيطة قديمة من حجر الصوان يوضع عليه الذرة أو القمح أو الدخن بعد أن يُبل ويُنقع في الماء ويوضع عليها ثم تبدأ عملية الطحن بواسطة حجر صغير يمسكه الطاحن بكلتا يديه وهو بارك على ركبتيه يطحن العجين، بالمناسبة هنالك من أهلنا من لا يزالون متمسكين بهذه الطاحونة البدائية لقناعتهم بأنها أفضل من المساحن والطواحين العصرية فهي صحية واقتصادية.. يا حليل عجين (المرحاكة)!! ويا حليل لبن الضأن الذي يصنع منه السمن واللبن الرايب والجبن.. وبالمناسبة مدينتنا كانت الأسبق في إنشاء مصانع الجبن بأنواعه ومازالت شهرة صناعة (الجبنة) تلصق بنا نحن أهل (الدويم)، وللحقيقة تلك الصناعة أتى بها الأغاريق من (اليونان) و(إيطاليا) بعد أن استوطنوا معنا بـ(الدويم).. يعني كان الأجانب من أوروبا يهاجرون إلينا طلباً للرزق، واليوم أصبحنا نهرع إلى المهاجر في كل أصقاع الدنيا طلباً للرزق الذي تزخر به بلادنا حتى الآن.. ما الذي يحدث لنا وأية كارثة تحيط بنا؟ عادي جداً كان أهلنا يحملوننا بخيرات (الدويم) من (فسيخ وسمك وسمن وعسل) إلى أهلنا بالخرطوم وأحياناً نهديهم خرفان الأضاحي.. وبمدينتنا كانت معاصر الزيوت ومصانع الصلصة ومحلج القطن وسوق المحاصيل والمواشي.. ما الذي حدث لنا ولخيراتنا؟! لماذا هجرنا فردوسنا ونعيمنا؟ ولماذا هجرنا الزراعة والنيل الأبيض على مرمى حجر من الأراضي البكر الصالحة لزراعة أي شيء!! التعليم بمعهدنا وتدريب كل معلمي السودان وبعض من معلمي الدول الشقيقة كانوا يتدربون بمعهدنا الذي بلغت شهرته أقاصي الدنيا.. إيه يا معهدي (بخت الرضا) أضعناك وضاعت التربية والتعليم!! يا أهل السودان ليس هذا حال (الدويم) وحدها بل حال كل البلد، فلنعترف أولاً بأننا لا نحب وطننا الحب الذي يتناسب مع معنى المواطنة أو المواطن.. وإلى متى نلعن فيه وهو الذي بشهادة كل أهل الدنيا لا يشبهه وطن من حيث النِعم والنعيم الذي وهبه لنا الخالق عزَّ وجل.. ومتى ننتبه إلى أن علاقتنا به صارت واهنة للدرجة التي نسمع من يشتمونه من أبنائه وبناته.. والله العظيم سمعت صديقاً وأستاذاً جامعياً شتمه أمام الملأ وكان عائداً من مهجره لمعايدة الأهل (بلدكم دي ماشين منها) بلدنا دي يا ابن.. ما ياها بلدك.. أرض أجدادك ومرتع صباك!! ويا حيّ الله، البلد الإنت شغال فيها تعدك أجيراً وأجنبياً مع احترامي وتقديري لكل العاملين من السودانيين الذين دفعتهم الظروف للهجرة وهؤلاء لن ولم ولا يشتموا وطنهم.. ودعونا نعترف بأننا نعَّول على حكوماتنا كثيراً حتى في بعض الأشياء التي يمكن أن نقوم بها بأنفسنا والتي يجب أن يقوم بها أبناؤنا من بعدنا.. زمان في (الدويم) كان مفهوم النفير والتضامن سمة من سماتنا.. كنا نبني المنازل ونجير البيوت وقبل الخريف كنا (نزبل) بيوت الجالوص الذي هو أحسن سكن يناسب أهل السودان، و(الزبالة) هي عملية كساء الحيطان بخلطة روث البهائم مع قش القمح والتراب يتم خلطها وتخمر بعد أن نغمرها بالمياه ثم نطلي بها الجدران، وهذه صناعة سودانية قديمة قدم التاريخ ضيعناها وصرنا نبني منازلاً لا تشبه بيئتنا وأصبح الكل يسعى لبناء المنازل من الحديد والأسمنت والسراميك والكل ينشد بناءً رأسياً وكأن الأرض ضاقت بنا، ويا حليل الحوش الكبير والباب الما بنقفل لا صباح لا ليل، ويا حليل الديوان الجلوسو كراسي وغرفة الضيوف والنفاجات التي تصل المنازل الصغيرة بعضها ببعض.. ويا حليل أغنية (إن طلعت القمرة، أخير يا عشانا تودينا لي أهلنا، بسألوك مننا)، والله العظيم رائحة طعام (حبوبتي) مازلت اشتمها وهي تطهو لنا في (الدحلوب) – إناء فخاري – صناعة سودانية.. تطهو ملاح التقلية والشرموط – اللحم المجفف – من خروف ذُبح للكرامة تدخر حبوبة بعضه وتحفظه لمدة طويلة لتعده لنا على إفطار أو عشاء ولمة أسرة.. والملاح ده حايم في الحي إذ لابد أن يتذوقه الجيران!! وين الحاجات دي هسه؟!.. وصناديق وأكياس الزبالة متخمة بفضلات الطعام النتن، والأغرب هنالك الجياع الذين يهيمون في الطرقات (يبيتون القوا) ولا يجدون قطعة خبز.. بعدين حكاية المليونيرات موضة الأيام دا شنو؟ والكل يتكالب على الوصول إلى هذا اللقب بالشفتنة والبلطجة، والاحترام والتقدير لأهل المال الحلال الذين كان سلفهم أعمدة اقتصاد بلدنا، وكانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، وفتحوا بيوت الآلاف من العاملين في متاجرهم ومصانعهم، ولا يأكلون الربا ولا مال السحت، ويؤدون زكواتهم وينفقون في السراء والضراء ولا يردون السائل ولا المحروم.. أذكر أن جدي يحرص على أن نقتني بالمنزل عدة دفن الموت (طورية وواسوق وكوريك) واليوم بالكاد لا نجد تلك المعدات إلا عند قلة من الناس.. الشباب اليوم محرومون من تلك المزايا التي أمتاز بها جيلنا.
طبعاً بتحسر على القوى الشرائية للجنيه السوداني الذي كنا نستبدله بما يقارب الأربعة دولارات أمريكية.. الشيء الوحيد الباقي في جيناتنا الوراثية سمعتنا الطيبة بين شعوب الدنيا والتي أخشى عليها من التآكل بسبب سلوك بعضنا من الذين لا يتقون الله ولا أمانة المواطنة والانتساب للوطن العزيز.. تجئ الأخبار بأن سودانياً احتال على رجل أعمال خليجي وهرب بأمواله.. سوداني!!.. اتخيلوا فضيحتنا التي تطال كل الوطن، أو إحداهن تهاجر لتمتهن الرذيلة (دي سودانية).. والله يا جماعة فرطنا!! وتتسرب كثير من قيم الخير من أيادينا ليحل محلها تكالب مادي غول وطمع وجشع وأنانية وكل واحد يقول يا روحي.. الخريف فضح الحي الذي أسكنه – مستأجراً طبعاً – هي شقة انحشرنا فيها ورفيقة دربي، اعتدنا على زيارات الحرامية المتصلة، وكثيراً ما نهرب طلباً للحميمية ولمة الأهل في الحوش الكبير.. عمارات الحي وطرقاته الضيقة كان من الممكن أن نعبدها ونصلحها إذا وظف كل صاحب عمارة باقي الطوب والاسمنت أمام مساحة منزله وفتح مجرى.. وأنا مالي دي مهمة البلدية!!.. يا ناس البلدية تسوي شنو وتخلي شنو؟.. في سويسرا الحكومة غير مشغولة إلا بأمهات الأمور والبلديات هي التي تعمر الأحياء وتزرع الحدائق من ريع تبرعات المواطنين.. ويومنا النزرع أشجار، نزرع أشجار النيم واللبخ ولا نزرع أشجار الليمون والجوافة والمانجو واليوسفي وبقية عائلة الأشجار المنتجة للفاكهة – قالوا شنو – لو زرعنا أشجار الفاكهة الأولاد بيقطعوها ويرموها بالحجارة، والأولاد ما حيقطعوا لو زرعنا في كل منزل نخلة أو شجرة فاكهة.. مُش!! وبعدين فرطتنا في موروثنا من عاداتنا وتقاليدنا.. والله في زمنا معظم علاجنا من العطار والأعشاب الطبية السودانية.. وأي حبوبة كانت عارفة مقدار الجرعة لمرض الحصبة أو الملاريا أو الدسنتاريا الخ.. الأمراض.. والكمدة بالرمدة – هسه في حبوبة بتعرف (أم غليلة) شنو..؟؟ ولا الشيخ والحسي.. ما أظن!!..
بعدين شنو قصة العصائر المصنعة وعندنا عصير الليمون والمانجو والكركدي والعرديب والقضيم.. ودي بالمناسبة بيحرصوا الأجانب على شربها.. فهي طبيعية!! وشنو (الهوت دوق والبيرقر والجامبو) وحاجات ثانية من الأطعمة صدرتها لنا العولمة وصارت تتعاطاها المدن.. ولمن صديقي الدكتور وزير المالية قال (مالا الكسرة) قمنا عليهو وكتر خير أهلي الفور الذين حافظوا على إرث ثقافتنا الغذائية.. بالمناسبة شربتوا (أم جنقر) أو أكلتوا (يخني الجداد المطبوخ في الكتوش)؟ أو أكلتوا (خميس طويرة)؟!.
لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. والنسى قديمو تاه، وألما عندو قديم ما عندو جديد.