(المعهد الوطني للديمقراطية) بواشنطن.. منح غير مشروطة وتمويل مشبوه
أواخر القرن الماضي نشرت صحف غربية أجزاء من وثيقة لوكالة المخابرات الأمريكية (سي آي أية) تحمل تصنيف (سري جداً) حوت خطة عمل محددة لتمويل هيئات المجتمع المدني في إحدى دول يوغسلافيا السابقة قبل تفكيكها، وكان الهدف هو التعجيل بإسقاط نظامها ونشر القيم الأمريكية تحت عنوان يحمل شعار الديمقراطية. وقدمت الوثيقة نموذجاً كلاسيكياً لاستخدام التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني في عملية التفكيك والاختراق للدولة المستهدفة! وعلى ذات الطريقة الكلاسيكية نشطت مؤسسات تمويل أجنبية من بينها (الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية) بواشنطن في تقديم أموال والإغداق على منظمات مجتمع مدني في العديد من الدول من بينها السودان وبشكل غير مشروط.
هنا فقط قطعت الكلمات التي قالها “ألن واينشتاين” أول مؤسسيه العديد من الشكوك والجدل الذي تثيره منح ونشاطات الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية (أن آي دي) والموجهة إلى العديد من الدول بما فيها السودان، فقد قال في تصريح لصحيفة (واشنطن بوست) في العام 1991م: (ما كانت تفعله وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) سراً قبل ثلاثين عاماً يفعله الآن الصندوق علناً). ويقال إن سبب استقالة “واينشتاين” اختلافه مع رئيسه “قيرشمان” بعدما اكتشف أن الصندوق يخدم أجندة معينة.. لكن دعونا نتساءل ما هي الأجندة الخفية للصندوق؟ وما هو هدفه وراء دعم منظمات مجتمع مدني سودانية؟ ولماذا نفت بعض المنظمات تلقيها دعماً منه؟
قطع مؤسسوه أنه مؤسسة غير ربحية هدفها تحقيق النمو وتعزيز عمل المؤسسات الديمقراطية، يقدم أكثر من (1000) منحة في (90) بلداً حول العالم من بينها مصر والسودان من أجل الأهداف الديمقراطية، وأشاروا إلى أن الصفة غير الحكومية توفر للصندوق المزيد من المرونة وتتيح له العمل في الظروف الصعبة. ورغم أن مؤسسيه يطلقون عليه صفة مؤسسة مستقلة إلا أن الكونغرس الأمريكي يمول الجزء الأكبر من نشاطاته، بجانب خزانة وزارة الخارجية الأمريكية.. الصندوق يدار بواسطة لجنة مشتركة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وتحظى تلك اللجنة بدعم من مختلف الانتماءات السياسية.. وقد درج الصندوق على نشر جميع منحه المقدمة إلى الخارج على موقعه على الشبكة العنكبوتية بتفاصيلها.
ويعدّ المعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية بما في ذلك مؤسسة (كفاية)، منظمات يمولها الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية وتتبع للكونغرس الأمريكي.
وجاء في مسودة سرية لتغيير الأنظمة، وضعها البنتاغون وبعض وكالات الاستخبارات الأمريكية، أن الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية بواشنطن له أهداف أكبر تتعلق بتغيير الأنظمة في العديد من البلدان، وهنا أشار مراقبون إلى أن خريطة واشنطن الأساسية لمشروع الشرق الأوسط الكبير التي تم الكشف عنها لأول مرة خلال رئاسة “جورج دبليو بوش” بعد العام 2001م شملت بلداناً تمت زعزعة استقرارها من بينها العراق ودول أخرى. وحسب المسودة فقد شارك (الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية) بواشنطن في التحضير بهدوء لموجة من زعزعة الاستقرار عبر شمال أفريقيا والشرق الأوسط منذ الغزو الأمريكي العسكري في 2001-2003م لأفغانستان والعراق. وأكدت الوثيقة أن الصندوق هو وكالة منسقة من واشنطن للتغيير وزعزعة استقرار الأنظمة، وكان نشطاً من (التبت) إلى أوكرانيا وفنزويلا لإعادة تشكيل العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي خطاب ألقاه “جورج بوش” الأب فى الكونغرس عام 1991م أعلن مزهواً بزوغ فجر النظام العالمي الجديد.
وسبق أن شمل مجلس إدارة صندوق التنمية ودعم الديمقراطية كلاً من وزير الدفاع السابق ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية “فرانك كارلوتشي” من مجموعة كارليل، والجنرال المتقاعد
ويسلي كلارك” من منظمة حلف شمال الأطلسي، ومن المحافظين الجدد صقور الحرب “زلماي خليل زاد” الذي كان من مهندسي الغزو الأمريكي لأفغانستان، وفي وقت لاحق صار سفيراً في أفغانستان فضلاً عن العراق المحتل. عضو آخر في مجلس صندوق التنمية ودعم الديمقراطية هو “فين ويبر”، الذي شارك في ترأس قوة عمل مستقلة يدور عملها حول سياسة الولايات المتحدة تجاه الإصلاح في العالم العربي مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “مادلين أولبرايت” وكان عضواً مؤسساً للمشروع بخصوص الاستخبارات الأمريكية في القرن الجديد مع “ديك تشيني” و”دونالد رامسفيلد” الذي دعا إلى تغيير النظام بالقوة في العراق في وقت مبكر عام 1998م.
ومن المفترض أن يكون صندوق التنمية ودعم الديمقراطية من المؤسسات الخاصة والمنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الهادفة للربح، لكنه يحصل على اعتمادات سنوية للعمل على الصعيد الدولي من الكونغرس الأمريكي والصندوق الوطني للديمقراطية، تعتمد على دافعي الضرائب الأمريكيين لتمويله، ولكن لأنه ليس وكالة حكومية لا يخضع لرقابة الكونغرس العادية. ويتم توجيه أموال صندوق التنمية ودعم الديمقراطية للدول المستهدفة من خلال: المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية المرتبط بالحزب الديمقراطي، والمعهد الجمهوري الدولي المرتبط بالحزب الجمهوري، والمركز الأمريكي للتضامن العمالي الدولي المرتبط بالاتحاد العمالي الأمريكي، وكذلك وزارة الخارجية الأمريكية ومركز المشروعات الدولية الخاصة المرتبطة بالغرفة الأمريكية بالسوق الحرة للتجارة.
الصحفي الأمريكي “ارك دريتسر” سبق أن أشار في مقال له نشرت صحف مقتطفات منه، إلى أن الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية يستخدم شعارات مثل (الشفافية) و(ترقية الديمقراطية) لتغطية أهدافه، وأنه يمول منظمات مجتمع مدني في السودان لتغيير النظام!
إلى ذلك، لفت خبراء وطنيون إلى أن وجود معارضة داخلية ضعيفة وبحاجة ماسة إلى الدعم، يجعلها فريسة للمخابرات الأجنبية والمنح المشبوهة التي قد تجبرها على تنفيذ أجندة بعينها تخدم مصالح تلك الجهات الغربية.. وقد شككت بعض منظمات المجتمع المدني السودانية في صحة ما نشر حول تلقيها أي دعم خارجي، بينما أقر بعضها بتلقي ذلك الدعم بحجة الصرف على برامج تلك المراكز وتسيير أمورها وتمويل دراسات تنتجها.
وأشار محللون إلى أن المتتبع لعملية التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية، يكتشف أن القضايا التي تتبناها هي محقة في العديد من جوانبها مثل الطفل، البيئة والمرأة، إلا أنها تفصل تلك القضايا عن النضال الوطني بدلاً عن التحرك في إطار مشروع وطني، وأكدوا أن منظمات التمويل الأجنبي تعمل على تفكيك البرنامج الوطني في الواقع والممارسة. ورغم احتكامها بصورة عامة في عملها إلى مرجعيات قانونية خارجية تسعى إلى تكريسها بالإضافة إلى ربطها لتلك القضايا بواقع إنساني، إلا أنه يؤدي من خلال التركيز على حقوق الأقليات إلى تفكيك الدول، ومن خلال التركيز على حقوق الأفراد إلى تمزيق المجتمعات وتهميش القضايا الكبرى.