الربيع العربي: عامان مضيا ولم تكتمل بعد (13)
{ رابعاً: الإخوان المسلمون والسلفيون.. (حسن القيادة وقوة التنظيم)
كل الأحزاب السياسية الليبرالية مختلفة الاتجاهات والمقاصد وإن جمعتها الليبرالية بمفهومها العام. مجموعات الشباب والطبقات الوسطى الذين أشعلوا الثورة وضحّوا من أجلها، يملكون الإيمان بالقيم التي أشعلوا من أجلها الثورة، لكنهم لا يملكون القيادة والتنظيم والمال. والجماعة الإسلامية بفرعيها الإخواني والسلفي، بما لديها من عمق تاريخي في المعارضة وقوة في التنظيم ووحدة في العقيدة وخبرة في جمع المال وقادة لهم السمع والطاعة.. رسمت لها خارطة طريقاً وإستراتيجية توصلها إلى الحكم، فوصلت.
ووصول الإخوان المسلمين إلى السلطة لم يكن عجيباً أو غريباً، لأنه متسق مع الواقع السياسي والتاريخي للبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية للمجتمعات العربية. وهنا يبرز سؤال مهم: هل استقرت ثورة الربيع العربي نهائياً في حضن أحزاب الجماعات الإسلامية وتحت لوائها؟! والإجابة هي أنني لا أرى ذلك.
إن ثورة الربيع العربي، التي وإن سكنت في بيت الجماعات الإسلامية بعد ثورتها، إلا أنها لن تستقر عند هذه الأحزاب بشكل أبدي.. ثورة الربيع العربي قاعدتها الأساسية والعريضة هي جماهير الشعب بكل طبقاته. ورغم أن الطبقة الفقيرة ذات القسط الأدنى من المال والعلم هي الغالبة، إلا أن المسيرة الطبيعية التاريخية هي: مزيد من العلم والمعرفة ومزيد من الإيمان بحرية الفرد وحقوقه المدنية والسياسية والاقتصادية، ومزيد من التوجه نحو الحرية السياسية والديمقراطية. وهذا من شأنه أن يقلل من شراسة وحجم الطبقة الحاكمة ويزيد من حجم الطبقة الوسطى التي في غالبيتها مسلمة، والإسلام دين القيم الإنسانية والحضارية والحرية والعدل والعدالة. ولأن هذه المبادئ والقيم هي من صلب مصادر الإسلام الأساسية، القرآن الكريم والثابت من السنة النبوية، فإنه بعد أن تمر تجربة الحكم عقب الثورة في كل من مصر وتونس وليبيا – بقيادة الإخوان المسلمين والسلفيين – بمعارك وصراعات أيديولوجية وسياسية، ستستقر الأمور في المنطقة الوسطى.. دولة مدنية قاعدتها العريضة إسلامية، دون إقصاء أو تهميش للأديان الأخرى، تحت مظلة الوطن للجميع.. دولة تسير نحو الديمقراطية الحقة وصيانة حقوق الإنسان وسيادة القانون وتحقيق العدل الاجتماعي.
هذه الرؤية المستقبلية المتفائلة هي انعكاس لما أعتقد أنه يسكن عقل الإنسان العربي وضميره، وليس بالضرورة أن تسمى هذه الدولة بالدولة الإسلامية.
يقول الدكتور “غازي صلاح الدين” في مقابلة له: (تعبير الدولة الإسلامية تعبير مستجد غير موجود في كتب التراث ولم توصف به أي من الدول التي قامت في تاريخ المسلمين، بما في ذلك دورات الخلافة الراشدة. لست مستيقناً تماماً لأني لم أجر دراسة علمية مدققة، لكنني أظن أن هذا التعبير بدأ استخدامه في القرن العشرين، وبصورة أدق بعد انهيار الخلافة العثمانية). ويمضي الدكتور “غازي” في مقابلته فيقول: (أنا لا أمضي حيث مضى الشيخ “علي عبد الرزاق” عندما نفى وجود الدولة الإسلامية جملة، لكني كما ذكرت لك هذا التعبير – أي الدولة الإسلامية – هو تعبير مشكل وغريب على التاريخ الإسلامي. أنا بالطبع مؤمن بأن الإسلام له هدى في السياسة، وإلا فما معنى الحديث عن العدل في القرآن، وما معنى الحديث عن الحرية، وما معنى الحديث عن الشورى، وما معنى النهي عن أن يكون المال دولة بين الأغنياء، وما معنى النهي عن الاحتكار وعن أخذ الربا أضعافاً مضاعفة، وما معنى الحديث عن العدالة الاجتماعية وما معنى الحديث عن محاربة الظلم والعدوان في النظام السياسي الدولي والدعوة إلى مناصرة المستضعفين من النساء والرجال والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟! كل هذا يقتضي وجود دولة، لكنها في نظري لا تسمى الدولة الإسلامية، لأن هذا يضفي عليها وعلى الحكام قداسة غير مستحقة). انتهى الاقتباس.
{ المحور الرابع: التحديات والفرص التي تواجه الديمقراطيات الجديدة في المنطقة
الحراك الذي أحدثته ثورات الربيع العربي أبرز العديد من الفرص أمام القوى الجديدة الصاعدة للحكم في هذه البلدان، خاصة على المستويين السياسي والاجتماعي، إلا أن هناك أيضاً العديد من التحديات التي ظهرت بالتوازي مع الفرص، وهي تحديات قد تكون ذات أثر سالب على الديمقراطيات الجديدة، الأمر الذي يصب في خانة المهددات، ومن هذه التحديات التهافت في العلاقة مع أمريكا وأوروبا من أجل مباركة الثورات.
إن أمريكا وأوربا، اللتين فقدتا كنوزاً إستراتيجية لا تعوض بسقوط رؤوس الأنظمة التي أطاحت بها الثورات، ولأنهما غير قادرتين على التصدي لهذه الثورات وإجهاضها بالقوة والحصار والانقلابات العسكرية، أو إغراءات المساعدات، لم تجدا أمامهما غير تملق تلك الثورات بتسميتها (ربيعاً عربياً)، وبإعلان الحوار والانفتاح مع القوى الجديدة، وفي مقدمتها من فازوا أو سيفوزون من خلال صناديق الاقتراع، حتى لو كانوا من الإخوان المسلمين والسلفيين أو القوميين والوطنيين المعادين للإمبرايالية تاريخياً، وهذا يعد واحداً من أكبر المهددات التي تواجه ثورات الربيع العربي والخوف من تغيير مسارها إلى منحى آخر يحقق المصالح الغربية ويعصف بالآمال العربية.
على أنهما (أمريكا وأوربا) أمام ما وجدتا من رغبة مقابلة في مبادلة الترحيب بالترحيب والموقف الإيجابي بالموقف الإيجابي، والأنكى أمام ما بدر من البعض من تهافت إلى حد التهالك في طمأنتهما واسترضائهما.. راحتا تطرحان قضية (الموقف من إسرائيل)، والموقف من المعاهدة المصرية الإسرائيلية أو اتفاقات أخرى، على الطاولة، وذلك في محاولة لاستدراج التنازلات المسبقة والمجانية حتى قبل أن تقلع الطائرة (النظام الجديد)، أي قبل أن يصل المرشح للرئاسة أو السلطة. وهنا بدأت تخرج أصوات تتبرع بالقول إن المعاهدات والاتفاقات السابقة سوف تحترم، والبعض راح يتحدث عن هدنة طويلة جداً جداً مع الكيان الصهيوني، وبعض آخر تحدث عن أن الأمر متروك للفلسطينيين، بل قيل أيضاً أنه من الممكن مع الهدنة الطويلة أن يعترف الطرفان في فلسطين ببعضهما.
وثمة حرج في اتخاذ مثل هذه المواقف، مع القول إن مقتضيات المرحلة الجديدة تقتضي ذلك. وبالمناسبة كل التنازلات التي سبق أن قدمها الرؤساء المخلوعون تمت بحجة مقتضيات المرحلة والظروف، و(سياسة الممكن)، كما تمَّ تحت غطاء منظمة التحرير الفلسطينية (ما يرضى به الفلسطينيون).. إذ (كيف يجوز أن تكون ملكياً أكثر من الملك)؟
لنضع في البداية، جانباً، ولو مؤقتا، ما كان يعتبر من المبادئ والثوابت بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، ولندخل في مناقشة السياسة الواقعية وموازين القوى وتقدير الموقف. وهنا سجد مبالغة في (الطمأنة)، وفي الانفتاح والإيجابية مع أمريكا وأوروبا تزيد كثيراً عما تقتضيه ظروف المرحلة، بل سوف نجد أن لا حاجة إلى تقديم التنازلات أو اقتراح الحلول في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والموقف من المعاهدات والاتفاقيات مع الكيان الصهيوني.
يمكن للمرء أن يتفهم موقف الثورات عندما ركزت على الحرية والكرامة وعلى إسقاط الرئيس والنظام، وهذا يسير أو يتماشى مع تحديد الأولوية الإستراتيجية، ومع عدم الدخول في معارك جانبية، أو التبرع بتوسيع جبهة الأعداء حين يتراجع بعضهم بسبب هزائمه أو ضعفه أو سواه.
ويمكن، بل يجب أن يتفهم المرء حاجة القوى الجديدة وهي متجهة نحو السلطة، وهي منخرطة في صراع مع ارتداد قوى النظام السابق عليها، إلى أن تقابل ترحيب أمريكا وأوربا بها بترحيب مماثل. كما السعي إلى إعادة تأسيس العلاقات بينهما على أسس جديدة من الندية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتعاون المتبادل.
ولكن هذا يجب أن يتم بقدر من التحفظ بعيداً عن التهالك والتهافت، وذلك ضمن تأكيد أن كل ما كان مع النظام السابق يجب أن يعاد النظر فيه على ضوء العلاقات الجديدة، وهو ما يقرره البرلمان والرئاسة والحكومة في المرحلة القادمة، وليس المرشح أو الحزب منذ الآن. فالإجابة المسبقة متعجلة وفي غير مكانها ولا حاجة إليها. يحدث هذا أيضاً في مواجهة تخوف بعض القوى والدول في المنطقة وفي الغرب مما يمكن تسميته (التسونامي الإسلامي) الصاعد في المنطقة، نتيجة لصعود قيادات الإخوان المسلمين للحكم.
من المهم جداً أن تعي القوى التي صعدت للحكم، وكذلك القوى الغربية وإسرائيل، أن ثورات الربيع العربي جعلت إسرائيل في مواجهة مباشرة مع الشعوب العربية، وليس مع حكامها فقط.
{ شح القيادات
ظاهرة هامة لفتت أنظار الراصدين لميادين وساحات عواصم دول الربيع العربي، وهي عدم وجود قيادات متميزة لهذه الجماهير هائلة العدد. فمن تحدث عن هذه الثورات في وسائل الإعلام المختلفة ودخل في تفصيلات كثيرة تتعلق بأسبابها وحاضرها ومستقبلها، هم محللون سياسيون وإعلاميون، وليسوا ناطقين باسمها أو قياديين فيها أو واضعي رؤاها أو مساهمين في رسم إستراتيجيتها. فهذه الثورات لم تكن لها قيادات واضحة المعالم، فعلى الضد مما لوحظ من ثراء الميادين الثائرة بالجمهور، لوحظ شح في القيادات، وهي ظاهرة مشتركة إلى حد ما في ميادين الثورات في عواصم الدول الشمولية، وذلك لأسباب موضوعية عديدة، أبرز هذه الأسباب هو أن الأنظمة الحاكمة قد عمدت إلى انتهاج إستراتيجية تصفية ممنهجة لكل من يبدو عليه أو يصدر عنه ما يشي بتململه أو اعتراضه على الوضع السياسي القائم.. فقد شهدت العقود الماضية تصفيات على مستوى واسع للمعارضة، تباينت بين التصفيات الجسدية والسجن والإبعاد، مما قلص إلى حد كبير قدرات المعارضة في الداخل، واضطر بعضها للتخلي عن معارضته والقبول بالأمر الواقع، في حين اضطر بعضها الآخر إلى التوجه نحو الخارج، راضياً بالهامش الضئيل الذي أتيح له ليلعب من خلاله دوراً محدوداً، لا يساعد على صناعة قيادات جديدة فاعلة، لأنه يفتقر إلى الميدان الحقيقي الذي تصنع فيه القيادات وهو البلد نفسه، حيث المعايشة المباشرة اليومية مع الناس ومشكلاتهم وقضاياهم، وحيث الاحتكاك المباشر مع السلطة الغاشمة.
إلا أن التصفيات الممنهجة هذه ليست السبب الوحيد لغياب القيادات وشحها في الميادين الثائرة، فهناك سبب آخر جد مهم، يكمن خلف ذلك، وهو فشل الأحزاب والحركات التقليدية التي خلبت ألباب الشباب في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم (الحركات القومية العروبية والحركات اليسارية الاشتراكية) وعزوف جمهورها عنها بسبب جمود قياداتها وعجزها عن تفهم روح العصر ومواكبة أطروحاته، وخلو أجندتها من البرامج التي تتعلق بحقوق الإنسان، وفشلها في تجديد رؤاها وتحديث خطابها وتغيير أساليب عملها.