السفير "عبد الرحمن ضرار" مدير مكتب "علي عثمان" السابق لـ(المجهر):
بقيت تفاصيل أسرار “نيفاشا” مكتومة في صدور الأحياء من صناعها، وغمرها النسيان، ودفنت مع الشريك الآخر في صناعة حدث بدَّل وغيَّر مجرى التاريخ، ورسم جغرافية الوطن من جديد.. مات “جون قرنق دمبيور” قبل أن يثمر غرسه ويستوى زرعه ومعه (ماتت) أشياء، وبقي “علي عثمان محمد طه” صامتاً لم يقل كلمته بعد.. لكن “علي عثمان” كان مؤسسة بعضها تنظيمية وسياسية لا تجرؤ على الكلام إلا بما يشار إليها .. وبعضها دبلوماسية محترفة اقتضت تقاليد المهنة أن تكتم كثيراً مما شاهدت وتابعت ورصدت ودوَّنت.
ولم يبُح السفير “عبد الرحمن ضرار” المدير السابق لمكتب النائب الأول للرئيس بكل ما في جعبته من أسرار وخفايا، ولكنه تحدث بشيء من التفاصيل عن شخصية “جون قرنق”، وكيف جرت المفاوضات في “نيفاشا”، وما هي أكبر العثرات التي واجهتها وكيف تم تجاوزها .. ثم كان السؤال الذي في الأصل اتهام يتردد في مجالس السياسة ويتم استخدامه في بعض الأحيان لأغراض سياسية، هل تضمنت اتفاقية “نيفاشا” بنوداً سرية بين (عثمان وقرنق) أم كل ما تم الاتفاق عليه وثق في الأوراق، ووقع عليه مساعدو الرجلين؟؟ وهل كان “جون قرنق” يخطط لحكم السودان من خلال صناديق الانتخابات، أم بتدبير انقلاب عسكري مسنود دولياً .. تلك شذرات من ما يفيض به كتاب “نيفاشا” .. في مكتبه بالطابق الثالث بسفارة السودان في قلب مدينة “جنيف” السويسرية تحدث السفير “عبد الرحمن ضرار” لـ(المجهر) قبل أن يعود لقواعده في “الخرطوم” لانتهاء فترته، وقد بدا على السفير الارتياح للعودة المرتقبة، كان الرهق بين البلدان قد أصاب الجسد النحيل فإلى نص المقابلة..
{ البطاقة الدبلوماسية أم البطاقة الشخصية؟
-كلاهما قد لا تفيد تفاصيلهما . . ولكني من مواليد “الغابة” بالولاية الشمالية.
{ يعني دنقلاوي أعجمي؟
-نعم أتحدث لغة الدناقلة ولكنها تعرضت لشيء من التصدع بسبب تداخل لغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية وقليل من الألمانية والبرتقالية.
{ كيف دخلت الخارجية بنفوذ كان وراء التعيين أم بأبواب الخدمة المدنية؟
-السودان ما كان يعرف شيئاً اسمه (الواسطة) قرأت إعلاناً في الصحف عام 1978م.. جلست لامتحانات الخارجية وكانت اللغة المطلوب النجاح فيها هي الفرنسية، وأنا خريج جامعة الخرطوم كلية الآداب.. تم استيعاب أثني عشر من الناجحين، منهم الدكتور “التجاني فضيل” و”عمر بشير” والسفير “أبو بكر حسين” و”الطيب علي”.. كانت أولى المحطات في حياتي العملية “صنعاء” عام (1981م-1983م) ثم انتقلت إلى “لاغوس” بجمهورية “نيجيريا” حتى عام (1987م) ثم عدت لوزارة الخارجية في دائرة المراسم حتى عام (1989م) ومنها إلى “أستكهولم” حتى عام (1993م) لنذهب للمجلس الوطني الانتقالي مديراً لمكتب السيد “محمد الأمين خليفة” ومنه إلى “جدة” حتى عام (2003م)، وتم انتدابي إلى مكتب الأستاذ “علي عثمان محمد طه” حتى عام (2006م) ثم غادرت إلى دمشق ثم إلى “جنيف”.
{ لماذا ضعف أداء الخارجية في السنوات الأخيرة هل لأسباب سياسية حيث طغت دبلوماسية القصر على دبلوماسية الوزارة؟ أم لأسباب أخرى؟
-لم يضعف أداء الدبلوماسية السودانية كما يشيع البعض، ولكن الاستهداف الذي يواجه السودان يتطلب دبلوماسية رئاسية ودبلوماسية شعبية ورسمية.. أن يصمد السودان ويبقى تلك نجاحات في حد ذاتها .. فالدبلوماسية في السنوات الأخيرة تعرضت لضغط شديد بسبب حجم الاستهداف..أن تصمد القوات المسلحة السودانية في مواجهة كل العمليات الموجهة ضدها من دول الجوار ومع تطاول الحرب يعتبر ذلك معجزة حقيقية .. الآن الولايات المتحدة استطاعت أن تحشد كل أسلحتها لإدانة السودان في مجلس حقوق الإنسان، وأي دولة تسعى لنيل رضاء أمريكا تبدأ بالهجوم على السودان حتى هناك دول لا تعرف عنا شيئاً.
{ ولماذا أصبح السودان هدفاً للصغير والكبير ؟؟ هل لأنه فتح أبواب التدخلات الخارجية بفشله في حل نزاعاته الداخلية؟؟ أم لشيء آخر؟
-قناعتي أننا نواجه استهدافاً كبيراً وسعياً دؤوباً من جهات عديدة لتقسيم السودان وفق خارطة جديدة؛ لذلك يتم تضخيم الجوانب السلبية وغض النظر عن الأشياء الإيجابية..في مجلس حقوق الإنسان في كل تقارير المبعوثين يتم تقديم السودان بأنه البلد الذي يعاني من انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان .. ويتحدثون عن التطهير العرقي وقمع الحريات الشخصية واعتقال المعارضين وإغلاق الصحف.. وبتأثير الإعلام على الرأي العام الغربي تبرع الأطفال في المدارس بوجبات إفطارهم لصالح ما يسمى بضحايا النزاعات في دارفور.. هؤلاء يخططون لتنشئة أجيال جديدة تنظر للسودان بسلبية شديدة. أخطر شيء أن يتم تعبئة الأطفال ضد دولة ما.. والإعلام هنا يتحدث عن السودان بتحيز شديد يدعي وجود إبادة جماعية لأهل دارفور وجبال النوبة واغتصاب ممنهج لإذلال بعض مكونات السكان. هذه الحملة الكبيرة بكل أسف هناك من لا يشعر بها في الداخل ولا يقدر مخاطرها .. ومنظماتنا الوطنية غارقة في أجندتها المحلية وتعوزها الإمكانات والقدرات في مواجهة ما يحدث هنا.
{ كيف تحصل الحركات المسلحة على التمويل من الدول الغربية؟
-هناك جهات لا تخفي تعاطفها مع الحركات المتمردة.
{ هل بالمقدور مواجهة الحملة التي تقودها الدول الغربية؟
-العقيدة الجديدة لدول الغرب الآن ليست المسيحية ولا اليهودية ولا الإسلام العقيدة الغربية الجديدة هي حقوق الإنسان، وحقوق المثليين الجنسية، ومنظمات المجتمع المدني في الغرب قوية جداً، وفي الشرق ضعيفة جداً وتحتاج لبناء قدرات.
{ أنت كأنك تقول السودان نسيج وحده لذلك يتم محاربته وهل نستكين هكذا لأقدارنا ونضرب خدودنا؟
-أكبر مشاكل السودان كانت قضية الحرب في الجنوب التي استمرت منذ عام (1956م) وحتى (2006م) دون أي مبرر، كان يمكن فصل الجنوب مع الاستقلال أو تلبية أشواق الأخوة بالجنوب بإقرار نظام فيدرالي حقيقي في إطار سودان واحد.. أو نظام اتحاد كونفدرالي.. لكننا آثرنا تأجيل اتخاذ القرار الصعب .. مشكلة السودانيين أنهم يخلطون بين معارضة الحكومة والوطن، وبين إشانة سمعة البلاد وإشانة سمعة الحكومات.. قضية دارفور كانت في السنوات الماضية متصاعدة بصورة مثيرة جداً .. ولكن الأحداث في “سوريا” غطت عليها، وانصرف الرأي العام لمتابعة الشأن السوري، ولكن العالم الغربي قد ينصرف عن الأحداث في “سوريا” إذا لم تحدث تطورات كبيرة على جبهة الصراع بين “الأسد” ومعارضيه.
{ كنت مديراً لمكتب النائب الأول “علي عثمان محمد طه” وأحد القريبين جداً من الرجل.. وعلى صلة وثيقة بمفاوضات “نيفاشا” .. هل كانت “نيفاشا” خطيئة الإنقاذ الكبرى كما يقول البعض؟
-أهم حدث في تاريخ السودان منذ عام (1956م) وحتى اليوم يتمثل في اتفاق “نيفاشا” بين الحكومة والحركة الشعبية، و”نيفاشا” خطوة تأخرت كثيراً.. والمفاوضات تمت من خلال لجنة يرأسها الرئيس “عمر البشير”.. كل تفاصيل الاتفاق تمت إجازتها داخل هياكل حزب المؤتمر الوطني والجهاز التنفيذي، و”نيفاشا” ليست اتفاقاً لشخصين فقط، كما يحاول بعض الشائنين القول.
{ لكن السودان دخل المفاوضات مكشوف الظهر والحركة الشعبية مسنودة من (الترويكا) الأوروبية؟
-نعم بكل أسف السودان دخل المفاوضات وحده بلا سند عربي ولا إسلامي، ولكن ماذا نفعل .. الولايات المتحدة استطاعت تحييد مصر وإبعادها من المفاوضات والدول الخارجية ليست لها قناعات كبيرة بجنوب السودان .. ولكن أهم سند للمفاوض كانت قناعات الشعب بأن الحرب آن لها أن تتوقف وأن السلام يجب أن يسود .. والمجتمع الدولي بلغته قناعة بأن الحركة الشعبية لن تحقق انتصاراً على الحكومة مهما نالت من الدعم لذلك يجب إنهاء النزاع في السودان.
{ هل كان الاتفاق الذي وقع مثالياً على الأقل بالنسبة لكم؟
-التفاوض لا يعني أن تنال كل ما تريد.. لكل طرف أهداف محددة.. وقناعات وخطة .. نحن نعتقد ما تحقق في “نيفاشا” هو المتاح .. وأكبر إنجاز أن تعترف الحركة الشعبية بحق الأغلبية المسلمة في حكم نفسها وفق مواريثها ومعتقداتها .. ومسألة حق تقرير المصير لجنوب السودان لم يقررها الوفد المفاوض في “نيفاشاط ولكنها كانت قناعة لدى الحكومة منذ عام (1994م) حينما وقع د. “علي الحاج” و”لام أكول” اتفاقاً في “فرانكفورت”.
{ هناك بنود سرية في الاتفاق لم يكشف عنها حتى اليوم .. هل تتفق معنا بوجود هذه البنود؟
-لو كانت هناك بنود سرية في الاتفاق لكشفتها “هيلدا جونسون” في كتابها الذي رصد كل شيء عن خفايا المفاوضات .. وبعض الناس المسكونين بنظرية المؤامرة يعتقدون بأن كل شيء من ورائه مؤامرة .. كنت مديراً لمكتب “شيخ علي”، والأمانة تقتضي أن أقول شهادتي بحق الرجل وللتاريخ كانت بنود الاتفاق تذهب للخرطوم .. للتعديل والإضافة .. “علي عثمان” لم يقرر في أي قضية، إلا بعد العودة للرئيس “البشير” وللمؤتمر الوطني .. ما وجدت في حياتي المهنية سياسياً يحترم مؤسسات الدولة والحزب مثل “علي عثمان” .. مثلاً حينما وضع مسودة اتفاق الثروة تم تعديل هذا الاتفاق ثماني عشرة مرة.. واتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية ناقشته المؤسسات العسكرية من الجيش والشرطة وجهاز الأمن لمدة شهر قبل الموافقة عليه.
اتفقنا في “نيفاشا” على الشراكة السياسية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ولكن موت “جون قرنق” جعل الشراكة مشاكسة.
{ لو عاش “قرنق” حتى جرت الانتخابات ماذا تتوقع؟
-“قرنق” لا يستطيع الفوز على “البشير” في الانتخابات، لكنه حتماً سينافس بشدة.
{ هل انفصال الجنوب كان على الأجندة أثناء المفاوضات؟
-الحركة الشعبية أصلاً لم تتخلَّ عن رغبتها في فصل الجنوب في حال فشلها في المشروع العلماني بفصل الدين عن الدولة .. في الجنوب توجد “لوبيات” كثيرة وتيارات بعضها انفصالي وأخرى وحدوية، وبموت “قرنق” انفرط العقد، وفشل “سلفاكير” في توحيد أجنحة الحركة ومراكز القوى بداخلها.
{ شخصية “قرنق” كيف وجدتها؟
-سياسي صاحب “كاريزما” في القيادة .. يكسب من يحاوره بفلسفته الخاصة، أقنع الكثيرين من القيادات السودانية بأطروحته، كان أثناء المفاوضات يحرص على متابعة نشرة الأخبار في التلفزيون، وفي أحد أيام (الجمعة) عرض التلفزيون خبراً عن صلاة (الجمعة) وهجوم الأئمة والدعاة على الحركة الشعبية، ووصفها بالعدو للعرب والمسلمين، فطلب “قرنق” من النائب الأول أن يتيح له فرصة لقاء أئمة المساجد في “نيفاشا” .. وكان الترتيب بسفر شيخ “الهدية” و”أبوزيد محمد حمزة” والشيخ “البرعي” و”الياقوت” و”الصابونابي”.. والتقى “قرنق” قادة الإسلاميين لوحده دون بقية مساعديه لمدة (4) ساعات تحدث فيها عن حياته في “الحاج يوسف” وذكرياته في “الخرطوم” ورؤيته لعلاقة الدين بالدولة، وخرج الأئمة بقناعات أن “قرنق” شخصية جديرة بالاحترام.
وقال “قرنق” للائمة إن أول دعم نالته الحركة الشعبية من الدول الإسلامية والعربية قبل الأفارقة.
{ لو عاش “قرنق” طويلاً؟
-لن يبدل قناعاته، ولكن يغير من تكتيكاته الظرفية، وهو رجل يمثل مؤسسة الحركة الشعبية ولا توجد مؤسسات أخرى داخل الحركة غير “قرنق” لذلك عندما ذهب ضعفت الحركة ووهنت وتقسمت لأجنحة.