تقارير

هل أتاك حديث (سيكافا)..؟! حرب جبال النوبة والنفق المظلم في العالم الثالث

دخلت الحرب في جبال النوبة عامها الثالث دون أن يلوح في الأفق مجرد أمل لوقف الحرب وتسوية النزاع، الذي أخذ في التطاول مترتبة عليه تبعات لا يحسب كثيرون آثارها على المدى القريب والبعيد.. وخلال سنوات الحرب اتحدت الجماعات الدارفورية المتمردة على السلطة المركزية مع جماعات متمردة من إقليمي جبال النوبة والنيل الأزرق بتشكيل (الجبهة الثورية)، التي تعيد للأذهان تجربة تحالف المعارضة الجنوبية المسلحة (الحركة الشعبية) والتجمع الوطني الديمقراطي مع اختلاف في جوهره، فالتحالف الذي جمع الحركة الشعبية مع التجمع الوطني الديمقراطي شكل نواة لتوحيد الشمال والجنوب برؤية (السودان الجديد)، وهي رؤية وحدوية بغض النظر عن الثمن الذي كان يتعين على الشمال حينذاك دفعه ليبقى السودان موحداً. لكن التحالف الماثل الآن أمامنا أقرب إلى التحالف الإثني لجماعات عرقية تشكل بعضاً من نسيج غرب السودان وجنوبه الجديد، وهو تحالف يضع البلاد على حافة مواجهة (إثنية) تمزق ما تبقى من الوطن لأشلاء مبعثرة إذا لم ترتق النخب (المسؤولة) إلى مستوى الحدث، وتنقذ البلاد من السير على حافة هاوية سحيقة، ستسقط في (جبها) قريباً إذا تعامى القادة في السلطة والمعارضة عن إفرازات الصراع الحالي، وما يحتقن في الصدور من مرارات إذا أصبحت البندقية هي لغة التفاهم بين الأطراف المتصارعة على السلطة، وتطاولت الحرب لسنوات أخرى، كما تشير الدلائل،
جبال النوبة وهي تلعق جراحها منذ اندلاع الحرب، احتضنت الأسبوع الماضي منافسات بطولة (سيكافا) التي صبغت بألوان سياسية بعد أن رفعت الجبهة الثورية شعار (ما تقوم)، بل هدد “عبود أندراوس” أحد أشرس مقاتلي التمرد في جبال النوبة باجتياح كادوقلي قبل بدء الدورة الرياضية، وشكك كثيرون في مقدرة جنوب كردفان على تنظيم الحدث والحفاظ على أرواح الأهالي من قصف عشوائي مجنون تقوم به حركة التمرد حينما يزور المدينة زائر، في محاولة لإثبات الذات.. بيد أن إنسان كادوقلي الذي تمسك بأرضه وقهر الصعاب وتحدى الظروف الصعبة، رفض الاستسلام، وما وهنت عزيمة قيادته ولا انكسرت وهي تستقبل رصاص التمرد من داخل البيت الحكومي تتربص بالكراسي على حساب القيم والمبادئ.. لكن أكثر الناس ما كان مصدقاً أن جبال النوبة الجريحة قادرة على صناعة الحدث والفرحة في زمان اكتست فيه الأرض بالتعب، وأمسكت السماء عن أمطارها حتى أمس في ظاهرة تثير الفزع والخوف من أن يتحد الجوع ونقص الثمرات مع الحرب وهلاك الأنفس.. 
العام الثالث على بدء الحرب شهد تصعيداً لافتاً بدخول متمردي دارفور حلبة النزال بأولويات تختلف عن أولويات متمردي جبال النوبة، فلمتمردي دارفور هدف الوصول إلى الخرطوم والإطاحة بالنظام زحفاً على طريقة ثوار ليبيا، ومنهج “موسفينى” و”كيقامي” في رواندا، بينما المقاتلون في جبال النوبة طموحاتهم وأهدافهم السيطرة على المنطقة.. وبدأ في الفترة الأخيرة سريان نبرة خافتة لأصوات ضعيفة تدعو لانفصال وحق تقرير المصير ويأس من إصلاح السودان الحالي.
وسط هذه المناخات تدور الحرب في جبال النوبة بشراسة غير معهودة، وبإمكانيات وقدرات عسكرية أقل من قدرات القوات المسلحة، ولكنها قدرات لم تتوفر لمتمردي الجنوب في الحرب الأولى ولا متمردي دارفور!!
ولا تسأل عن مصادر السلاح، حيث من المعلوم بالضرورة أن دولة الجنوب تمد متمردي جبال النوبة والجبهة الثورية بالعتاد وتمنحهم حرية الحركة، وتعبر سيارات اللاندكروزر من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى جوبا.. ومن يقرأ كتاب (حركة العدل والمساواة) للمؤلف “عبد الله التو”م وقصة “خليل إبراهيم” من ميلاده حتى دخول أم درمان، يدرك أن الدعم الذي تحصل عليه حركات التمرد الدارفورية بعضه هبات وتبرعات شخصية للعمال والموظفين والتجار من أبناء دارفور في المهاجر العربية والأوروبية.. لكن أبناء جبال النوبة في دول المهجر عددهم أقل من الدارفوريين، وحماستهم للحرب ضعيفة مقارنة بأبناء النوبة في الداخل، حيث تساهم السياسات الحكومية في التباعد بينهم وحكومتهم الوطنية، وخير شاهد على ما نقول هدم منازل النازحين منذ عشرات السنين في مناطق (كرور) بأم درمان وترحيلهم لأطراف بعيدة في ظروف معيشية صعبة، ونظرة الشك بأن كثيراً من هؤلاء إما هم متمردون أو متمردون (محتملون)!!
في الوقت ذاته، مدّ متمردي الحركة الشعبية وصل التعاون والاستقطاب لجماعات إثنية عربية كقبائل الحوازمة والمسيرية والبديريه في كردفان، باستقطاب بعض (مكون) الدفاع الشعبي الذي قاتل إلى صف الحكومة في الحرب الأولى ولم يجد رد الاعتبار بعد تحقيق السلام عام 2005م.. والآن يقف على الحركة الشعبية من أبناء المسيرية اللواء “حسني حامد” و”آدم كرشوم” نائب “عبد العزيز الحلو” الأول، و”رمضان سالم” من أبناء الحوازمة، و”إبراهيم الجاك” ابن عم والي شمال كردفان “معتصم ميرغني حسين زاكي الدين”.. ونجحت الحركة في استقطاب أكبر مكون إسلامي مناهض للتمرد في السودان ممثلاً في مملكة (تقلي) بالجبال الشرقية، حيث أصبحت (رشاد) و(أم بركة) و(أبو الحسن) مناطق عمليات نشطة وجبهة مفتوحة على شمال كردفان.. وهذه المناطق كانت بعيدة عن التمرد وسكانها من الصوفية القادرية يأتمرون بإشارات شيخهم “أزرق طيبة” في معقل الحركيين.. فما الذي جعلهم اليوم يحملون السلاح عوضاً عن اللوح وقلم البوص، ويصوبون سلاحهم إلى صدور بعضهم البعض حتى غدت الحياة هناك شبه مستحيلة؟!
إزاء هذا الواقع، فإن السؤال هو: هل كانت أقامة مباريات (سيكافا) في هذا التوقيت ترفاً وهروباً من الواقع؟؟ وهل في مناخات الحرب والموت تنصرف الدولة لتنظيم مباريات كرة قدم؟؟ وهل بطولة (سيكافا) أولوية على ما عداها؟؟ ومن قرر إقامة المنافسة في كادوقلي والفاشر؟؟ وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية أم سلطات ولايتى جنوب كردفان وشمال دارفور؟؟  
للإجابة عن التساؤلات أعلاه تجدر الإشارة إلى حديث قائد ميداني وضابط في القوات المسلحة يرابط مع فرسانه على قمة جبل (حجر النار) غرب مدينة كادوقلي عندما سألته عن شعور مقاتليه والمدينة تلعب كرة وترقص على أنغام “عبد القادر سالم”، قال بزهو: الجنود يشعرون بأنهم يؤدون واجباً وطنياً حينما يشاهدون مدينة كادوقلي من تحتهم بأنوارها الباهية وحركة السيارات تجوب الطرقات.. وأضاف القائد الميداني الذي يستحق ذكر اسمه لولا خوفنا من اتهامنا من قبل “الصوارمي” بإفشاء أسرار الدولة: نحن نحمي شعبنا ليمارس حياته الطبيعية.. فإذا أصبحت المدينة مصبوغة بلون الدم ورائحة البارود، واستحالت الحياة، وفقد الناس الإحساس بطعم الحياة وغدت كادوقلي سجناً بأسوار صنعناها بأيدينا- وقد تغنت “أم كلثوم” في جبهة القتال في حرب 1973م وكان سعد الدين الشاذلي يخطط للحرب ويصغي لصوت “عبد الحليم حافظ”- إذا فقد المقاتل والإنسان الصامد في الجبال الإحساس بالحياة، تسربت إلى نفسه أسباب الهزيمة.
أما السؤال هل (سيكافا) أولوية الآن؟؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال نقفز إلى السؤال الأخير.. هل تنظيم (سيكافا) في كادوقلي والفاشر سعى إليه “أحمد هارون” و”عثمان كبر”؟؟ أم قرار سيادي عبر من الاتحاد السوداني لكرة القدم إلى الوزارة الاتحادية والخارجية، ثم إلى القصر الرئاسي الذي قرر الإنفاق على الدورة وتحمل تبعاتها، واقترحت الخارجية على دول (سيكافا) أن تقام الدورة في الفاشر وكادوقلي لإثبات قدرة الدولة على سيطرة على أهم مدينتين في غرب السودان تتعرضان للتهديد من قبل الجماعات المسلحة؟! فالمركز من قرر تحمل نفقات (سيكافا) ومكانها وزمانها لخدمة السياسة الخارجية للدولة، وكان لوجود الفريق اليوغندي في كادوقلي أثر بليغ، وكمبالا تحتضن قيادات التمرد وتمنحهم الدعم والسند، حينما يعود فريق سلطة الضرائب اليوغندي إلى بلاده مفعماً بمشاعر الود والترحاب الذي وجده في كادوقلي.. والرسائل التي بعثها أطفال زغب من (حجر المك) وغيرها إلى الرئيس اليوغندى “يوري موسفيني” (ارفع دعمك عن من يقتلوننا) هي رسالة إنسانية سيحملها فريق الضرائب اليوغندي إلى بلاده.. ولا تنسى ذاكرة الشعوب قصة لعبة (البيسبول) التي فتحت جدار الصمت بين الولايات المتحدة والصين.
إن قرار الخارجية بإقامة منافسات (سيكافا) في السودان وتحمل نفقاتها قرار لخدمة مصالح السودان العليا، ونقطة (ضعفنا) التاريخية أننا فشلنا في كسب ود الأفارقة من الجيران، والآن تسعى دولة الجنوب لامتلاك مفتاح هذه الدول فكيف ندع لها الساحة وحدها؟!
إن الحرب التي تدور رحاها في جبال النوبة الآن والتحالف الذي نهض تحت سقف الجبهة الثورية يهدد بإطالة أمد الحرب لسنوات قادمة، وقد أصبحت الحلول عصية جداً، حيث تجد الجبهة الثورية دعماً وتشجيعاً من الدول الغربية، بينما تسوء العلاقات مع الغرب كل يوم.. ولا تمتلك الصين خبرة في (التسويات) السياسية لتقدم على مبادرة تنهي دورة الحرب، مع أن الصين هي المستفيد الأول من الاستقرار في المنطقة الأفريقية نظراً لتمدد استثماراتها وازدهار سوقها.
أخيراً.. ما السبيل حيال ما يجري الآن من حرب أرهقت الدولة وحطمت مجتمعاً بأكمله؟؟ إن الحرب والرهان على البندقية والدعوة التي تتبناها جماعات عنصرية في الخرطوم من شاكلة منبر السلام (الخال الرئاسي) من شأنها تمزيق ما تبقى من السودان.. أو الحفاظ على السلطة ولكن بثمن باهظ جداً وكلفة تجعل الحياة مستحيلة.. والتفاوض دون إرادة دولية تضغط على الأطراف بشدة من شأنه إطالة الحرب.. وبيد الرئيس “عمر حسن البشير” وحده اتخاذ قرارات صعبة ومصيرية تحفظ لما تبقى من البلاد وحدته، بالاعتراف أولاً بوجود أزمة وطنية حقيقية ومعضلة تواجه السودانيين.. وهم ليسوا أول شعب ولا آخر دولة تتعرض لأزمة ومحنة!! والحل في أزمة بلادنا بالنظرة الشمولية لا النظرة الجزئية، وإعلان مبادرة سياسية بتقاسم السلطة مع كل أبناء الوطن من حاملي السلاح والجالسين على الرصيف، والدعوة لانتخابات حرة بعد فترة انتقالية تتفق الأطراف عليها، على أن يسمو الرئيس “البشير” فوق الانتماءات الحزبية ويقدم نفسه كضامن لحقوق جميع السودانيين، لا كرئيس لحزب وحركة سياسية حاكمة!!
مقابل ذلك، يضع حاملو السلاح الكلاشنكوف، ويقبلون على حقبة مصالحة حقيقية تغسل النفوس من المرارات والفواجع، وتنعقد مؤتمرات المصالحة والعفو المتبادل حتى ننهض بوطن معافى من الحروب.. فقد استقرت كل دول العالم إلا نحن، نقاتل بلا هدف ونتوعد بعضنا بالإقصاء من مستوى الفعل إلى مستوى الوجود،  ولا نحصد إلا الرماد والتمزق والنزوح والدموع والأحزان..!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية