"سلفا" وجنرالات الجيش الشعبي.. (من ينتصر) إرادة السلام أم تيار الحرب؟!
حالة من الالتهاب الحاد تلازم علاقة السودان وجنوب السودان طوال الفترة الماضية، وسرعان ما تبادر إحدى رئتي البلدين بإخراج رشح كثيف من الجراثيم العالقة بالداخل تجعل الجسم بأكمله يتداعى من متلازمات تلك الحالة، ويبدو أن نيران الخرطوم التي وجهتها عبر التوجيهات التي أصدرها رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير” لوزارة النفط بالشروع في إغلاق أنبوب النفط تمثل واحدة من وسائل الضغط التي تستخدمها الخرطوم في محاولاتها لإبطال كروت “جوبا” المتمثلة في دعم الحركات المسلحة والمتمردة على الحكومة السودانية في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، كما يمثل تمسك الحكومة السودانية بضرورة تنفيذ اتفاقيات التعاون الموقعة في السابع والعشرين من سبتمبر من العام الماضي كحزمة واحدة موقفاً جديداً في مسار العلاقات بين الدولتين.
مواقف دولية
المواقف الأخيرة بين البلدين جعلت تيارات المياه الجارفة في الأعماق تطفو على السطح بل وتغذيها الكثير من الروافد.. المجتمعان الإقليمي والدولي لم يقفا بعيدين عن ذلك وسرعان ما صدرت العديد من التصريحات المطالبة بالتهدئة والتوجه لتجاوز القضايا الخلافية بين البلدين، وسرعان ما دعت الأمم المتحدة السودان وجنوب السودان إلى احترام اتفاقات التعاون الموقعة بينهما في سبتمبر من العام الماضي، وقال متحدث باسم الأمم المتحدة إن الأمين العام للأمم المتحدة “بان كي مون” طلب من السودان وجنوب السودان احترام اتفاقات حسن الجوار المبرمة في (27) سبتمبر من العام الماضي، فيما حذر الاتحاد الأوروبي حكومتي السودان وجنوب السودان من تصعيد الصراع بينهما. وعبرت مسئولة العلاقات الخارجية بالاتحاد، “كاثرين أشتون” عن قلقها الشديد جراء إعلان حكومة الخرطوم وقف مرور الصادرات النفطية القادمة من جنوب السودان وتجميد اتفاقية التعاون بين البلدين، وقالت “أشتون” إن منع تصدير النفط الجنوبي سيكون له عواقب خطيرة على قدرة البلدين على البقاء وعلى العلاقات الثنائية بينهما وعلى المنطقة بأسرها، وطالبت “أشتون” الدولتين بوقف دعم الجماعات المسلحة للمتمردين، وقالت إن على “الخرطوم” و”جوبا” البحث مع الاتحاد الأفريقي عن سبل حسم الصراع فيما بينهما، وفي اتجاه آخر اعتبرت الخارجية الأمريكية إغلاق خط أنابيب نقل النفط عبر الحدود من جنوب السودان مخيباً للآمال.
دعوات “سلفاكير”
“سلفاكير” هو الآخر أطلق دعوة للسلام بين بلاده والسودان، مؤكداً أنه سيلجأ إلى وسطاء الاتحاد الأفريقي لحل الخلافات القائمة بين البلدين، وطالب شعب جنوب السودان أن يبقى هادئاً وصبوراً حتى تجاوز ما سمَّاه بالمأزق مع الخرطوم من خلال العمل مع الاتحاد الأفريقي، ويقول نائب أمين أمانة الإعلام بالمؤتمر الوطني المهندس “قبيس أحمد المصطفى” في حديثه لـ(المجهر) إن نكران المثبت بالأدلة والبراهين لا يفيد، وأضاف: (كان الأجدى والموقف الطبيعي من حكومة الجنوب أن لا تتمادى، ويسعى رئيسها لمعالجة الخلل داخل حكومته للحفاظ على العلاقة مع السودان والحفاظ على اتفاقيات التعاون)، وفي اتجاه آخر أكدت الخرطوم على لسان وزير الإعلام، الناطق الرسمي باسم الحكومة د.”أحمد بلال عثمان” أن اتخاذ تلك الإجراءات من قبل الحكومة السودانية جاء اضطراراً نتيجة لعدم التزام “جوبا” بالاتفاقيات الموقعة بين الدولتين، وأقر “بلال” بتأثير تلك الإجراءات على اقتصاد الدولتين، وأضاف بالقول: (الجنوب لم يلتزم بالاتفاقيات، بل عكس ذلك يجمع المتمردين السودانيين ويقدم لهم كل أشكال الدعم لتنفيذ عملياتهم العسكرية على السودان). واتهم “بلال” حكومة جنوب السودان بالسعي إلى تقويض الحكم بالسودان، وقال إن لدى حكومته الوثائق التي تثبت ذلك.
وبدوره ذهب مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني في المسار ذاته وتحدث عن خرق دولة جنوب السودان لاتفاق الترتيبات الأمنية الموقع بين البلدين، وأكد أن دعم “جوبا” مستمر وممنهج للجماعات المتمردة، وأكد وجود وثائق وأدلة تم تسليمها لجوبا تؤكد تورطها في استمرار الدعم والإيواء في عدد من المناطق بداخل دولة الجنوب، وقال إن ذلك الدعم شمل الذخائر والأسلحة والوقود وقطع الغيار للسيارات ذات الدفع الرباعي بجانب علاج جرحى المتمردين في مستشفيات الجنوب وتسهيل السفر والتدريب.
ويقول نائب أمين أمانة الإعلام بالمؤتمر الوطني المهندس “قبيس أحمد المصطفى” عند سؤاله عن مواقف المجتمع الدولي من قضايا السودان وجنوب السودان إن المجتمع الدولي ليس كتلة صماء واحدة، ويؤكد أن المجتمع الدولي في تعامله مع قضايا السودان يقوم على مصالح متشابكة ويقول قبيس في حديثه لـ(المجهر) إن السودان لا يعيش في عزلة ولديه أصدقاء في المحيط العربي والأفريقي وفي آسيا وأوروبا يناصرونه في المحافل الدولية، ويرى طقبيس” أن بعض قادة المجتمع الدولي يتعاملون بازدواج في المعايير الدولية تجاه السودان وتجاه المتمردين، ويضيف بالقول: (هناك من لا ينطلق من رؤية محايدة)، ويشدد على أن موقف الحكومة الذي أعلنه الرئيس “البشير” يقوم على استقلال الموقف السوداني في القرار الوطني بناء على مصالح الشعب، ويؤكد أن موقف الحكومة واستقلالية اتخاذ القرار لديها يصطدم مع رغبة جهات تناصب السودان العداء وتحيك المؤامرات وتصدر القرارات في مواجهته، وأضاف: (المنظمات التي تناصب السودان العداء منذ زمن بعيد لا تقصد بذلك الحكومة وإنما السودان ككل في مؤسساته وموارده وشعبه).
بناء الجيش
الحركة الشعبية في تاريخ صراعها مع الحكومة السودانية وعلى مر العصور ظلت تتباين في مواقف قادتها وتطفو الصراعات بداخلها وتأخذ بعداً قبلياً ناتج عن طبيعة تكوين الوحدات المقاتلة في الجيش الشعبي، وربما ذلك يمثل أحد التركات الضخمة التي ورثتها الدولة الجديدة في جنوب السودان نتيجة تحول الجيش الشعبي من قوات تتبع لحزب الحركة الشعبية لتصبح نواة لجيش دولة الجنوب، ويقول المراقبون إن الجيش الشعبي بني في سنوات الحرب على الولاء للقائد العشائري أكثر من الولاء للفكرة ويستدلون على ذلك بالانقسامات التي حدثت في الحركة الشعبية والجيش الشعبي، التي قادها جنرالات وقادة كبار في ذلك الزمان ومن بينها الانقسام الأشهر الذي قاده نائب رئيس دولة جنوب السودان الحالي د.”رياك مشار” الذي ينحدر من قبيلة النوير التي تقع حقول نفط الجنوب في أراضيها على الحدود مع السودان، وانشق د.”رياك مشار” عن الحركة الشعبية برفقة جنرالات كبار في الجيش الشعبي ووقع على اتفاقية للسلام مع حكومة الإنقاذ في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، ومن بعده حدث انقسام د.”لام أكول” وهو من قبيلة الشلك، ثم انقسام “كاربينو” وهو من قبيلة الدينكا وقد عاد الأخير مرة أخرى لصفوف الحركة ولكنه اغتيل في ظروف غامضة.
ويقول المبعوث الأمريكي الخاص للسودان وجنوب السودان السابق “برليستون ليمان” في حوار سابق أجرته معه صحيفة (الشرق الأوسط) إن سنوات الحرب أثرت على الوضع في الجنوب ويظل قادة في الجنوب يتصرفون وكأنهم لا يزالون يحاربون الشماليين في الغابة، ويؤكد أنه أحيانا، يتشاءم، ويقول ليمان: (الحركة الشعبية يمكن أن تقبل، ليس فقط انتحاراً اقتصادياً، ولكن أيضاً انتحاراً سياسياً. تفكر الحركة وكأنها جيش تحرير يمكن أن يعود إلى الغابة ويحارب، بصرف النظر عن مصير بقية المواطنين).
الحركة والانقسامات
و”سلفاكير” رئيس دولة جنوب السودان، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان هو من مواليد ولاية بحر الغزال في 1951م ومن قبيلة الدينكا كبرى قبائل السودان بتعداد يتعدى ثلاثة ملايين نسمة متفوقة على القبيلتين النيليتين الأخريين المنافستين في زعامة الجنوب وهما قبيلتا الشلك والنوير، عرفت شخصيته بأنها خلافية ورغم صرامة وجهه إلا أنه في الفترة الأخيرة يقول المراقبون إن مواقفه سيما مع السودان اتسمت بالعقلانية رغم وجود التيارات التي تعمل من خلفه في توتير العلاقات مع السودان من خلال دعم الجماعات المتمردة على الحكومة، وارتباط “سلفاكير” بقيادة العمليات العسكرية في مناطق بحر الغزال خلال فترة التمرد في نهاية التسعينيات تشير إلى معرفته التامة بقضايا التماس وعلاقات القبائل والتداخل الذي يحدث فيها، لكن مراقبين يقولون إن ولايات التماس في دولة الجنوب سواء شمال وغرب بحر الغزال أو حتى أعالي النيل قادتها مصحوبون بدعم استخبارات الجيش الشعبي هم من يشكلون الخطر في دعم الحركات المسلحة في الأراضي السودانية ويستشهدون بما تقوله الحكومة السودانية من اتهامات مستمرة لاستخبارات الجيش الشعبي بدعم الحركات المتمردة في مناطق التماس في جنوب كردفان ودارفور والسماح لها بإخلاء الجرحى وتوصيل المساعدات الأخرى أو حتى خدمات العلاج حسبما ذكر المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني الفريق أول مهندس “محمد عطا المولى” خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع وزير الإعلام بقاعة الصداقة بالخرطوم.
أبيي وقطاع الشمال
المتابع للعلاقات بين السودان وجنوب السودان يلحظ أن بعض الملفات صعدت إلى قمة الطاولة بينما تراجعت أخرى، ومن الملفات التي وجدت اهتماماً كبيراً هي قضايا الأمن بين البلدين بالنسبة للحكومة السودانية وتليها قضايا الاقتصاد والنفط والتجارة الحدودية في أولوية اهتمامات دولة الجنوب، وفي ظل تلك الاهتمامات العاجلة تراجع ملف أبيي الذي كان قد سيطر على الأوضاع بين البلدين لفترة من الزمان، ويبدو أن تحالفاً مصلحياً يربط بين أبناء أبيي من دينكا نقوك المؤيدين لدولة الجنوب الذين يتقلدون مواقع متقدمة في حكومة الجنوب وجيشها الشعبي، وبين الحركة الشعبية قطاع الشمال وحركات دارفور ويبدو أن الرابط بين تلك المجموعات هو المصلحة في توتر العلاقات بين الخرطوم وجوبا إلى حين حصول كل طرف من أطراف ذلك التحالف على ما يريد، فالطرف الأول يعمل لأن تذهب أبيي جنوبا، والثاني يعمل على التوصل لاتفاق مع الحكومة السودانية يلبي أهدافه أو إسقاط النظام عبر العمل المسلح، وفي كل تلك الرؤى تحسن العلاقات بين السودان وجنوب السودان لا يخدم أجندة ذلك التحالف.
وما بين ذلك التحالف الذي تقول الحكومة السودانية انه مدعوم من جنرالات ومتنفذين في الجيش الشعبي وبين دعاة السلام في الجنوب تظل الأسئلة حائرة تنتظر عامل الوقت ليجيب عنها، وقطعاً يعتلي سؤال: “من ينتصر؟”، قمة قائمة الأسئلة التي ترتبط بعلاقات السودان وجنوب السودان.