المعسرون.. مآسٍ خلف القضبان!! قصص وحكاوي لمسنين في زنازين الحزن والألم بـ(سجن الهدى)
بدا الحزن مخيماً على محيا أربعتهم حين أتى بهم العسكري يقتادهم، وذاكرة كل منهم حوت ماضياً حزيناً وواقعاً مريراً.. أصغرهم تعدى الأربعين عاماً وأضلعه تكاد تنفر من مكانها لشدة ضعفه ووهنه.. اختلفت قصصهم وتفاوتت أعمارهم، وقاسمهم المشترك كان (سجن الهدى)، يئنون تحت وطأة (زنازينه) التي لا ترحم.. يواجهون الأمراض إلى حين سداد ما عليهم بعد انقضاء (محكوميتهم).. و(البقاء لحين السداد) عبارة يندرج تحت لوائها سجناء ما يعرف بـ(الحق الخاص) أو (المعسرين)، حين أصبح الثراء حلماً لمعظم أصحاب الشيكات المرتدة!! ولكن (أربعتي) لم يكن حلمهم الثراء، بل أقدارهم رمت بهم في غياهب سجن الهدى.. لا يعرفون متى وكيف الخلاص!!
{ (الحق الخاص) لا يعرف عمراً
أميال عدة قطعناها ونحن نتلمس طريقنا إلى مدينة الهدى الإصلاحية التي تكاد تقع على تخوم الولاية الشمالية.. العديد من القرى المتناثرة ترقد على جنبات الطريق، والعديد من التساؤلات دارت بخلدي وفي بالي كبار السن من المعسرين.. كيف يعيشون ويتعايشون؟ وهل السجن حل لأمثالهم والأمراض تفتك بهم؟ ما هو دور الدولة في حل أزماتهم؟ وأين ديوان الزكاة وأهل الخير والمحسنين؟!
(الحق الخاص لا يعرف عمراً) حقيقة قطع بها اللواء شرطة “عبد اللطيف سر الختم وديدي” مدير مدينة الهدى الإصلاحية، مؤكداً وقفتهم الصلبة مع المعسرين كبار السن الذين أغلب (محكوميتهم) هي مخالفات عدم دفع الإيجار والنفقات الشرعية، بالإضافة إلى أصحاب الأذى البسيط، مشيراً إلى أن معظم المعسرين كبار السن موجودين على ذمة مبالغ لا تتعدى الخمسة آلاف جنيه، وعددهم ل يتعدى الـ(200) مسن من جملة (2123) معسراً يضمهم سجن الهدى، وفيما عدا ذلك جرائم قتل ودية وحيازات أراضٍ.. و(ع. أ. أ) أحد المعسرين على ذمة مبلغ لا يتعدى الخمسة آلاف جنيه وسنواته الأربعين لم تشفع له في البقاء خارجه، فخلافه مع زوجته دفع به إلى المكوث بين جنبات السجن بسبب تقصيره في الإنفاق عليها رغم عدم إنجابه منها، فكان القضاء ملجأها لتطالب بنفقتها.. ورغم أنه لا يعاني من أمراض إلا أنه يبدو للناظر من الوهلة الأولى كأنه رجل على أعتاب الثمانين، فطعام السجن لا يتماشى مع معدته، وعزوفه عنه جعله يطلق مناشداته هنا وهناك يطلب من الخيرين مساعدته في دفع ما عليه من مال ليتنفس هواء الحرية.
{ عصا موسى
الألم والمرض لم يقتصر على (ع. أ. أ) بل تعداه إلى زملاء الوحدة وليل السجن الطويل، وهم ينتظرون عصا موسى علها تضيء ظلامهم وتحيل أحزانهم أفراحاً.. والنزيل (ح. م) يكاد الندم يفتك به، فمشاجرته مع (مخمور) قبل إردائه قتيلاً حولته من جندي يعمل بإحدى القوات النظامية إلى سجين يقبع تحت رحمة من يدفع مبلغ له (31) مليوناً هي دية القتيل.. سنواته تعدت الـ(57) عاماً توفيت زوجته، وفي عنقه أربع فتيات تتولى جدتهن رعايتهن، يناشد المسؤولين والخيرين ومن قبلهم المواطن بترك الحماقة التي لا تفيد صاحبها.
معاملة خاصة يتلقاها نزلاء (الحق الخاص) تتمثل في توفير الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم والغذاء والاتصال بالعالم الخارجي مع الأسر والأصدقاء، بالإضافة إلى وجود القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الأخرى المختلفة المسموعة والمقروءة، أما المظهر العام للمباني داخل مدينة الهدى فيؤكد أن الغرض هو توفير حقوق الإنسان داخل السجون.
(ش. ق) هو أحد أبناء النوير، لم يكن أقل من صاحبي سجنه كدراً وامتعاضاً على حاله، فقد بلغ من العمر (72) عاماً وأكثر من عشر سنوات قضاها تجوالاً بين السجون إلى أن استقر به المقام في سجن الهدى في انتظار من يدفع عنه دية من قتله بعد مشاجرتهما في مبلغ مالي.. لم يعد لديه ما يملك هنا حالياً فكل أبنائه ذهبوا إلى الجنوب وتركوه يعاني الوحدة والأم والمرض، فهو بالكاد يسمع ما أقول!! و(م. أ) ليس بأفضل منه حالاً فمشاجرته مع نفر آخر وإلحاق الأذى البسيط به في أحداث “جون قرنق” (2005م) دفعت به إلى السجن منذ ذلك الوقت، وظل فيه إلى حين سداد ما عليه وهو مبلغ (11) ألف جنيه، ولم يدر بخلده للحظة أن تلك الأحداث ستحيل حياته إلى جحيم وتفقده ممتلكات تقدر بخمسين ألف جنيه.. عمره تعدى الـ(77) عاماً.. يعاني من مشكلة في البصر، بجانب (قرحة) و(أنيميا) حادة، أضف إلى ذلك عدم استساغته طعام السجن الذي لا يتماشى مع أمعائه ويناشد رئيس الجمهورية مساعدته..
أحاسيس عديدة شعرت بها وأنا أستمع إلى هؤلاء الأربعة الذين جيئ بهم بعد أن أذن لهم المدير، وهم يتحدثون عن آلامهم ومأساتهم، ومن قبلهم المواطنة (ع) التي التقيتها خارج أسوار السجن وهي تحكي معاناة والدها المعسر (72 عاماً) على ذمة قضية قطعة أرض مساحتها (2500) متر تم شراؤها بأوراق اتضح فيما بعد عدم صحتها، وأن الأرض عبارة عن (حيازة )، لكن اكتشافهم للأمر جاء متأخراً، بعد أن باع الأب (1200) متر لثلاثة أشخاص يطالبون الآن باسترداد أموالهم وهي (95) ألف جنيه، يقبع بسبهها داخل السجن إلى حين السداد والمرض يكاد أن يفتك به، فهو يعاني من (الأكزيما) وارتفاعا في الضغط!!
{ مجهودات وحلول
هل الحل الوحيد لتحصيل هذه الأموال يكمن في السجن؟ تساؤل أجابني عنه اللواء “عبد اللطيف” وهو يحدثني عن الجهود الكثيرة التي تبذلها إدارة السجن مع ديوان الزكاة الاتحادي والولائي ولجنة الغارمين بالهيئة القضائية، تصب جميعها في وضع الحلول والمساهمة في دفع مبالغ النزلاء المعسرين غير القادرين، وذلك بعد إجراء الدراسات الاجتماعية للنزلاء الذين مكثوا مدة طويلة. وحسب اللواء “عبد اللطيف” فإن هناك العديد من النزلاء غير قادرين على دفع المبالغ المحكوم بها عليهم، ورغم أن توفير المال في حينه يتطلب وقتاً فقد تم الإفراج عن عدد كبير من المعسرين خاصة أصحاب المبالغ البسيطة، مثل الإيجار سواء كان منازل أو محال تجارية، بالإضافة إلى فئة تكاد أن تكون محدودة خاصة بمبالغ التعويضات الناتجة عن الأذى الجسيم.
وجهود الإدارة لم تقتصر فقط على المسنين المعسرين، بل تعدته إلى نزلاء الشيكات المرتدة، التي تكون في الغالب مبالغ كبيرة يصعب دفعها بواسطة الدولة أو الجهات المعنية أو فاعلي الخير، فيتم تكليف إدارة الإصلاح والتقويم بالسجن لوضع خطة تهدف إلى الجلوس مع الخصوم بواسطة لجنة أجاويد لتخفيض المبلغ أو سداده على أقساط بصورة يقبلها الطرفان، بمساهمة من إدارة مدينة الهدى الإصلاحية بمنح النزلاء أذونات راتبة للجلوس مع الخصوم لتسوية الأمور الخاصة بهم.. هذه الإجراءات تفخر بها الإدارة وتعدّها قد آتت أكلها، بالإضافة إلى مذكرة تفاهم رفعتها إدارة السجن إلى الاتحاد الوطني للشباب السوداني لرعاية الشباب داخل السجون، خاصة المحكوم منهم على ذمة (الحق الخاص) من عمر (36) عاماً إلى ما دون ذلك، باعتبار أن الشباب هم الفئة التي يمكن أن يستفاد منها في إعمار المجتمع، لكن بعض الإشارات بعث بها اللواء “عبد اللطيف” تؤكد أن الثراء السريع جعل من هؤلاء الشباب ضحايا لـ(الحق الخاص)، والتلهف للوصول إلى القمة بأسرع ما يمكن زج بهم إلى أحضان السجون التي لا ترحم، ولكنه قطع قائلاً إن (85%) من سجناء (الحق الخاص) لا يعودون مرة أخرى حال الإفراج عنهم.
{ وبعد
ليت الأمر يقتصر على هؤلاء المسنين الأربعة فحسب، لكنه يتعداهم إلى عدد كبير من المعسرين كبار السن ممن تعج بهم السجون وهم يعانون أمراض الشيخوخة من (سكري) و(ضغط) و(قلب).. أين الجهات المسؤولة منهم ومن معاناتهم؟ وهل السجن مطاف لآخر عمرهم يمكثون فيه إلى حين ملاقاة ربهم؟ وإلى متى تستمر معاناتهم؟!