من بينها (كتشنر) و(كشة) و(كترينا).. أسماء ومعالم رسمت ملامح الخرطوم القديمة
ليس هناك وجه شبه بين الخرطوم زمان أو القديمة وخرطوم اليوم، وقد ازدانت بحلة بهية وثوب قشيب حاكته أيدي المدنية والتطور العمراني تبعاً لمجريات العصر، ورغماً عن ذلك فإن تاريخها يحكي سيرة مدينة عريقة، أصيلة المنبت والعرق عبث المستعمر بها مخلفاً بصماته التي وضعها هنا وهناك. أزيل بعضها وبقي البعض الآخر بمسمى حديث.
وللعاصمة السياسية الخرطوم ملف حافل احتوى على كل ماضيها. (المجهر) أخذت عينة من هذه الحضارة متمثلة في بنيتها السكنية والوافدين الذين استوطنوا بها بعد تقنينهم وتخصيص جاليات لتنظيم وجودهم، إلى جانب شوارع وأحياء قديمة، شمل بعضها التحريف والتحويل، فيما احتفظ بعضها بذات الاسم، لكن قبل ذلك من أين جاء أسمها ومتى، هذا ما سنعرضه في هذه المساحة.
النشأة وأصل التسمية
الخرطوم العاصمة المثلثة والعاصمة القومية، تأسست تقريباً في العام 1691م، وتأسيسها كعاصمة للبلاد كان في العام 1830م، وقد إختلفت الروايات حول سبب تسميتها بهذا الاسم، وعن أصل التسمية ومعنى اللفظ هناك من يقول إنها ترجع لشكل قطعة الأرض التي تقع عليها المدينة ويرفدها نهرا النيل ويلتقيان مع بعضهما في شكل انحنائي ليرسمان قطعة أرض أشبه بخرطوم الفيل، إلا أن الرحالة البريطاني كابتن “جيمس جرانت” الذي رافق الكابتن “جون أسك” في رحلته الاستكشافية لمنابع النيل، ذكر أن الاسم مشتق من زهرة (القرطم) التي كانت تزرع في المنطقة وتصدر إلى مصر ليستخرج منها زيت الإنارة.
أما تاريخ الخرطوم كمستوطنة بشرية فيعود إلى عصور سحيقة، وأكدت بعض الدراسات أن الإنسان إستوطن فيها منذ سنة 400 ق.م، وترجح مصادر أخرى ترجع في تاريخها إلى القرن السادس عشر الميلادي، أن المكان الذي تقوم عليه الآن كان عبارة عن أحراش وغابات، وفي القرن ذاته قام سكان جزيرة توتي وكانوا ينتمون إلى المحس النوبية بزراعة المكان قبل أن يقيم فيه أحد فقهائهم ويدعى الشيخ “أرباب العقائد” مدرسة لتعليم القرآن ويتحول تدريجياً إلى منطقة سكنية.
أماكن وعوائل خرطومية
الخرطوم عموم هو اسم المدينة الواقعة شمال السكة الحديد، مقسمة إلى ثلاثة أحياء رئيسية وهي (الحي الانجليزي) ويقع شرق شارع المك نمر حتى الشارع المؤدي لكبري بحري، ويليه (الحي الإفرنجي) ويقع بين شارع المك نمر وشارع القصر الذي كان يسمى في ذلك العصر بشارع فيكتوريا. سكنت هذا الحي جاليات يونانية (الاغاريق) وايطالية ويهودية، كما كانت هناك أسر شامية من (سوريا) و(لبنان) وبعض العوائل الأرمنية، أما الجزء الواقع غرب شارع القصر كان به السوق العربي ومنازل أسر سودانية عريقة مثل أسرة (الزيبق) و(آل كشة) و(آل الفوال). وكذا الأقباط وهم من أعرق النحل التي استقرت بالخرطوم وكانت لهم حيشان كبيرة ومبانٍ قديمة مثل حوش بولص شرق شارع القصر وحوش سليم مكان الكمبوني الآن وعمارة (آل نخلة) الواقعة في تقاطع شارع الحرية مع شارع الجامعة، ولهم منازل كثيرة في أحياء الخرطوم المختلفة.
ولكل من تلك الجاليات شهرة في ميادين العمل العام، فكان الإغريق يعملون بالتجارة العمومية (البقالات) ولهم حانات وسط الخرطوم كـ(لورد بايرون وشناكا وخباز) في شارع الجمهورية، وهم أول من أسس الورش الصغيرة دربوا فيها كثير من الصبيان. فيما اهتم الشوام بتجارة المنسوجات والأصواف وأشهرهم (آل قرنفلي) و(آل المراشي)، وأدخل (آل كافوري) من لبنان مزارع الأبقار وإنتاج الألبان المشهورة بكافوري والذي كان يوزع بعربات بيضاء مرسوم عليها بقرة سوداء في زجاجات اللبن المبسترة في أحياء الخرطوم المختلفة. أما الأسر اليهودية فكانت تعمل بتجارة المحاصيل (الفرد وقاعون وحبيب كوهين والبيرث اشكنازي وال دويك وال العيني) ولهم مقبرة قديمة موجودة حتى الآن في المنطقة الصناعية بالخرطوم، ومعبد بشارع القصر قام في مكانه الآن مبنى البنك الأهلي السوداني، فضلاً عن بعض الأسر الأرمنية (ازمرليان وبودريان). إلى جانب كثير من الأسر التركية التي إنصهرت في المجتمع السوداني منذ زمن بعيد.
وفي السياق اشتملت الخرطوم القديمة على بعض المعالم الإستعمارية التي تمت إزالتها بعد الاستقلال كتمثال الجنرال (غردون) أمام بوابة القصر الجنوبية، وكان التمثال البرونزي مثبتاً على ظهر جمل ووجهه متجه إلى الجنوب الغربي نحو الضاحية التي كان يأوي إليها والمعروفة حينئذ بشجرة غردون. وفي الجانب الشمالي من القصر وأمام وزارة المالية كان يقبع تمثال القائد “كتشنر” وهو على صهوة حصان من البرونز تمت إزالتهما لاحقاً وأرسلت التماثيل إلى انجلترا، وصاحبها تغيير أسماء الشوارع من شارع غردون إلى شارع الجامعة، وشارع كتشنر إلى شارع النيل.
إختلفت الروايات حول تسمية (شارع كترينا)، لكن فذلكة تاريخية تقر بأن الاسم لسيدة يونانية تدعى مدام (كترينا) كان لها متجر ضيق في شارع أبوسن بالخرطوم شرق، قبيل أن تنتقل به في أوائل الستينيات إلى الشارع المشهور باسم (كترينا) الذي يقع شرق حديقة القرشي بالخرطوم جنوب وينتهي غرب مسجد شروني.
وبالنسبة لأحياء الخرطوم (زمان) ورد في كتاب (تاريخ الخرطوم) للمؤرخ السوداني “محمد إبراهيم أبو سليم”، أن بعض أحيائها في العهود التركية شملت حي الحكمدارية، حيث مركز الحكم وحي المسجد، على أن الأحياء الشعبية كان يسكنها عامة الناس وقد احتلت أطراف المدينة وأشهرها حي (سلامة الباشا)يقطنه الوافدون من جبال النوبة، وأفقرها حي (هبوب ضارباني) إلى جانب حي (الكارة) أو حي (الطوابجية)، فيما احتل حي (الترسانة) المنطقة الواقعة غربي شارع الحرية الحالي، وقد أخذ اسمه من الجسر الذي أُقيم جنوبه لحماية المدينة من فيضان النيل الأبيض ، وفي هذا الحي كان وما يزال منزل عمدة الخرطوم العمدة “ود كرم الله” ومن قبله العمدة “المرضي”. وفي أقصى الشرق كان حي بري المحس، وقد ظل هذا الحي في مكانه طوال عهد التركية والمهدية إلى أن نقل لموقعه الحالي بالبراري سنة 1900م.