أخبار

وعن "عبد الكريم ميرغني" أقول!! (2)

استوقفني أحد الأصدقاء برسالة إلكترونية يثني عليّ أن تحدثت عن “عبد الكريم ميرغني” قائلاً: (لم أكن أعرف عن عبد الكريم ميرغني ما ذكرت من معلومات مفيدة رغم أني كنت أعرف عن الرجل الكثير.. فمزيداً من الحديث). وحتى لا يظن– القارئ الكريم- أني سأواصل بمقالات تتعدد عن هذا الرجل الشريف، وإني– والله- لأحب ذلك، ولكني سأكتفي بمقال اليوم، لأني لن أحصي رجلاً بهذه القامة الباذخة بعدة سطور في مقالات، وإنما يستحق سفراً بمجلدات تتعدد!!
كان حول السيد “عبد الكريم ميرغني” كنز من الأصدقاء الأوفياء وكل واحد منهم يمثل رمزاً عالياً من رموز المجتمع.. ولهذا تسارعوا في ذكرى تأبين أقيمت له..
كتب عنه صديقه البروفيسور “علي عبد الله علي” يقول:
(كانت فترة عمل عبد الكريم ميرغني في الهند في فترة حكم الفريق إبراهيم عبود، وكنا كطلبة نحس بأنه لم يكن متحمساً للحكم العسكري الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت، ولكن لم أسمع منه قط طوال فترة قضيناها معه يسيء إلى حكام البلاد في ذلك الوقت.. وكان كل ما يقوله لنا هذه فرصتكم فاغتنموها لأن في بلاد غاندي ونهرو ما سيفيدكم في مستقبل أيامكم..).
ويستطرد قائلاً: (كان عفيف اللسان. وأذكر أنه دعانا ذات مرة إلى داره لحضور احتفالات 17 نوفمبر.. ولما وصلنا وجدناه نائماً، وكان وقتها وحده بدون عائلته.. وشعرنا بأن المدعوين قد بدأوا في الوصول، فما كان مني والأخ العزيز عبد العزيز مصطفى أحمد إلا أن هرولنا إلى غرفة نومه وأيقظناه حتى يخرج للمدعوين، ذلك لأننا لو لم نفعل لظل يغط في نوم عميق!!).
ويضيف البروفيسور: (وفي أثناء الاحتفال أشار إلى أن نذهب معه إلى السفير البريطاني في الهند، وقال له إنني طالب ماجستير في العلوم الاقتصادية، فما كان من السفير البريطاني إلا أن قال باستغراب: لماذا يتجه معظم الطلبة الأفارقة لدراسة الاقتصاد والقانون؟ وبعفوية شديدة رددت عليه بقولي إن الطلبة الأفارقة يدرسون القانون لأنهم يريدون أن يعرفوا حقوقهم التي سلبت منهم أثناء فترة الاستعمار، ويدرسون الاقتصاد ليعرفوا إلى أي مدى استغلهم المستعمرون- وكان معظم الأفارقة من الدول التي كانت تحت نير الاستعمار البريطاني- شعرت لحظتها أن السفير قد امتعض بشدة، ولكنني لمحت ابتسامة الرضا على وجه المرحوم عبد الكريم ميرغني).
يكشف لنا البروفيسور “علي عبد الله” جانباً آخر من شخصية السيد “عبد الكريم ميرغني”، وهو جانب لا يعرفه كثير من المثقفين، ولكن يعرفه أهل أم درمان في الأحياء.
(ومن الأشياء التي لاحظتها في تلك الفترة، محاولاته العميقة والعديدة في دراسة الطب الشعبي عن طريق دراسة الأعشاب الطيبة واكتشاف خواصها ومزاياها كبديل للعلاج الحديث. ولا أعرف كيف جاءته هذه الفكرة. وأقول ربما كان هذا الأمر مرجعه الفترة التي عاشها في الهند، وحاول التوغل في تاريخها وعلومها.. وأذكر أنني وعديلي ذهبنا غليه ذات مرة- وكان عديلي يعاني من الألم في بطنه.. أعطاه تركيبة من هذه الأعشاب التي لديه، ساعدته كثيراً في تخفيف آلامه.. وكان يحدثني في أنه استطاع تسجيل بعض ما توصل إليه خارج البلاد ولا أدري أي مدى وصلته).
هذا الحديث يثير عدة أسئلة وحديث عن أدبيات “عبد الكريم ميرغني”.. عن مذكرات “عبد الكريم ميرغني”.. عن أبحاثه وعن هواياته وعن أوراقه وعن حياته.
رجل بهذا الاتساع المعرفي والتخصصات والهوايات، بل الوظائف المتعددة.. أين مقتنياته؟ ومن يحتفظ ويحفظ هذا العلم والمعرفة المتعددة الجوانب؟!
ثم إن السؤال الجريح الذي ألقاه البروفيسور “عبد الله”: (ولا أدري إلى أي مدى وصلته) يقصد ما توصل إليه “عبد الكريم” في مجال العلاج بالطب العشبي.. والسودان قد عرف هذا النوع منذ أزمان وأصبحت صيدلات (التيمان) البحر الذي تقصده سفن المرضى.. الذين يجدون في (القرض) و(بخور التيمان) عطراً وعلاجاً.
ثم يضيف البروفيسور “علي عبد الله” سراً آخر كاشفاً عن أمر أخفاه “عبد الكريم ميرغني” عن الناس لأنه يتعلق بعلاقته بربه.. يتعلق بالليل وما يتيحه الليل من خلوة تحسن فيها المناجاة، حيث لا يرى الناس دمعة تهتف بخشية الله!!
يقول لا فُض فوه: (… ولاحظت وقتها نزوعه إلى تصوف محبب ولاحظت أنه أكثر عمقاً في فكره، بل وفي طريقة تفكيره، وينظر إلى الحياة بروح إيمانية غير عادية، بل بصورة لم أعهدها في العديد من أبناء هذه الأمة، فتأسفت أنني لم أكن أغوص معه في العمق عندما كنا معه في الهند).
ثم يكشف عن هذا الرجل الكنز رؤية اقتصادية متفردة.. يقول: (وكان أهم ما يميزه فيما يتعلق بالاقتصاد والمجتمع وتطوره، أنها أمر شامل لا يمكن أن يتجزأ، وأن أهم محور هو الإنسان.. لذلك كان إحساسه عميقاً بالفرد السوداني وخصائصه التي يتفرد بها، وربما كان يشير إلى مغازي أحداث أكتوبر التي أطاحت بأول حكم شمولي في السودان).
وإذا كان جيل “عبد الكريم” قد قدم لهذا الجيل “عبد الكريم ميرغني” كاشفاً مواهبه وتعدد تخصصاته، فإن (مركز عبد الكريم ميرغني) عني برعاية رجل عملاق سخر ماله واتصالاته وخبرته لخدمة الثقافة والفكر، سيما ما يخص السودان وتاريخ السودان، والوثائق التي تحمل أسرار وأخبار ووقائع مسيرة السودان منذ عُرف بحدوده الجغرافية ومساحته المليونية الأميال!!
(قبل الانفصال) سخّر تلك الأموال لإقامة هذا المركز، ثم رفد هذا المركز بالعديد من الإصدارات القيمة والوثائق النادرة، وجعل أماسي أم درمان بطعم (حي العرب) وعطر (الموردة)، وتوابل (ود نوباوي)… وأعاد لداره في حي (ود ارو) طعم شاي المغرب الملبون.. تسوقه (لِقيمات) و(براد) من صنع الصين وتتلقفه في احتضان أكف (اللامسين).. حتى لا يبرد (بوخه).
لقد صوّر الشاعر المبدع “محجوب شريف” أمسية كانت له في دار “عبد الكريم” ولم يصف كل المشهد.. وإنما كتب وباقتدار (وهو عاشق الشاي) شاياً (منعناً).. و(مقرفلاً) و(مهبهناً) في دار “عبد الكريم”:
(يا تلك الترامس..
 وين الصوتو هامس
كالمترار يساسق
ويسري كما الحفيف
وتصطف الكبابي
أجمل من صبايا..
في وسط الروابي
ثرثرة المعالق..
والشاي الظريف..
هل سكر زيادة..
أم سكر خفيف..؟)
“محجوب” يرى (الترامس) الألمانية الصنع الشديدة الاحتفاء بما في داخلها من شاي، والذي لابد أن يصل حاراً وكأنه يبكي ناراً من فحم حجري..
ويرى يد “عبد الكريم” تمد (الكبابي) كما يفعل شيخ الطريقة لمحبيه ومريديه لا يكف يده الممدودة لا العمر ولا والوظيفة، ولا صغر سن الممدود إليه كوب الشاي.
ثم هو يكشف في هذه الأبيات حضارة إنسان أم درمان.. الذي يحضر الشاي بكراً لا تفض بكارته معلقة السكر إلا باستئذان.. (هل سكر زيادة أم سكر خفيف؟).
اختفت (الكفتيرة) زرقاء اللون طويلة (البُوز) من منزل “عبد الكريم” باكراً، وامتنعت الأسرة عن (تطعيم) الشاي وتركت لـ”محجوب” أن يعيد السؤال:
(هل سكر زيادة
أم سكر خفيف..؟)
و”محجوب شريف” شاعر شفيف، يملك قدرة الإدهاش بكلام تحسب أنك تستطيع أن تكتبه ثم ما تلبث أن تجده عصياً وصعباً..
ربما أجد شجاعة في يوم ما وأكتب عنه ما يستحق.. ومرد الخوف وفقدان الشجاعة أني أخاف أن لا أوفيه مستحقه من القول!!
أعود للحديث عن “عبد الكريم ميرغني”..
لقد أخفى سره عن أقرب الأقربين منه..
“محجوب عثمان” يؤكد صداقته له وحميمية صداقة “عبد الكريم” بـ”عبد الخالق محجوب”، ثم يُعلن أن “عبد الكريم” ليس شيوعياً!! لماذا يعلن ذلك (وهو نفسه شيوعي) بل يُصرّ على ذلك الإعلان؟.. مَن يخاطب “محجوب” بهذا القول الجهير؟
ويتحدث بروفيسور “علي عبد الله” عن هذا الرجل الصوفي المتبتل الواعي لمنهج الصوفية الخالية من الاشتطاط والتنطع والملتزمة بالإخبات والإحسان.. ثم هو– وقد قالوا– إنه متخصص في طب الأعشاب.. وهو الدارس لعلم الإدارة والراسخ في علم الاقتصاد.. فكيف دلف إلى الطب وخصوصاً أسرار الأعشاب؟
ثم هو الأديب الذي يسامر الشاعر الفذ “محمد أحمد محجوب” الذي لا يقبل مجلسه إلا أهل النهى والزَكانَة والفضل.. يسامره وكأنه “شكسبير” أو “أبو الطيب” والـ”محجوب” “سيف الدولة”.. غير أنه لا يطلب ولاية ولا جارية أو الاثنين معاً!!
ثم هو مع سفراء دول عدم الانحياز ينحاز للسودان، وكأن الكون كله السودان..
وتستقبل داره دار السودان “أنديرا غاندي” وقد رصّع (ودع) “المجذوب” منها الصدر والسواعد.. فأصبح (الساري) الهندي ثوباً سودانياً و(فوطة) لهدندوية ربطت خِصرها وكأنها تحتزم سيفاً هندياً يسند انحناء ظهرها ليقبّل نعلها وقد توسّط في رمال كأنها مغسولة  بـ(أوُمو).
ثم هو في أم درمان.. يعرف كيف كان “كرومة” يوقظ الليل من أن ينام باكراً.. وكذلك يستيقظ مخافة أن يسفر الصبح بنهار يطوي أنس ذلك الليل!!
وفي أكتوبر والمتاريس، وليلتها تلك تجعله وزيراً للتجارة.. ووزارة التجارة يومها تملك الاستيراد والتصدير وهو لم يوقع رخصة (استيراد) إلا بحقها ولو كانت حقاً لشركة “عثمان صالح” شهيد المصادرة وهو خاله.. و(الجنا خال).
بالمناسبة كلمة (الجنا خال) هذه لا تصدق إلا في حالات مُعينة– وذلك من رحمة الله- وإلا لأصابنا فعل خؤولة بما لا نستحق..
ولكن “عبد الكريم” أكد صدق المقولة في شخص “محمود عثمان صالح” الذي أتشرف أن أكتب عنه واسأل عارفيه أن يعينوني في أن أفعل..
وبعد..
حين أكتب عن “عبد الكريم ميرغني”، قصدت أن اقرع (جرساً) في آذان النسيان ويوم الضحى..
وليكن ما كتبت سطراً في كتاب..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية