دارفور بين مأزق الاستفتاء وصراع النخب!
{ نص اتفاق الدوحة بين الحكومة وحركة التحرير والعدالة على استفتاء سكان دارفور، وتخييرهم بين نظام فيدرالي متعدد الولايات والعودة إلى نظام الإقليم الواحد على غرار نظام مايو الذي أسس لحكم إقليمي قسّم السودان إلى ثلاثة أقاليم جنوبية وإقليمين بغرب السودان وأوسط وشمالي وشرقي.. والنص الوارد في اتفاق الدوحة تم استنساخه من اتفاق أبوجا الموقع بين مجموعة حركة تحرير السودان (مناوي) والحكومة، بيد أن انهيار اتفاقية أبوجا حال دون قيام الاستفتاء الذي تطالب به حركات دارفورية تحمل السلاح وقبلته الحكومة وهي تتكئ على رهان أن أغلب سكان دارفور مع خيار الولايات المتعددة، بحسبان أن ثمة مكاسب تحققت لنيالا والجنينة والضعين كثمرة لتعدد الولايات، تجعل خيار الإقليم الواحد و(استبدال) مركزية الخرطوم بمركزية الفاشر أمراً لا يجد سنداً ولا دعماً.. وما بين الوفاء بالاستفتاء كعهد بين الحكومة وحركة التحرير والعدالة أو بعض من أهالي دارفور مشهود عليه دولياً وإقليمياً، وما بين تجنب مغامرات جديدة قد تفضي إلى مفاجآت غير سعيدة للحكومة، فإن أطروحة الأقاليم تمددت إلى كردفان حيث تداولت مجالس سياسية خلال الأيام التي سبقت استئناف جولة المفاوضات مع قطاع الشمال أطروحة نهوض إقليم جنوب كردفان بثلاث ولايات.. إلا أن التدابير السياسية التي اتُخذت بعودة غرب كردفان قطعت الطريق أمام فكرة الإقليم للخروج من نفق ومأزق المشورة الشعبية التي تمثل (متاهة) لأنها تقود لإعادة تفاوض جديد، وربما لتحكيم دولي يعيد إنتاج أزمة الجنوب القديم في ثياب جنوب جديد.. لكن استفتاء دارفور المنصوص عليه في اتفاقية الدوحة ومن قبلها (أبوجا) إذا لم (تتدبر) السلطة المركزية إدارة العملية السياسية للاستفتاء والإجراءات الفنية، فإنه سيفتح أبواب جهنم جديدة على وحدة السودان.. فهل يمكن إجراء استفتاء في مناخ الحرب؟ وأي شروط وواجبات يقتضيها قيام الاستفتاء الدارفوري؟!
والعملية السياسية للاستفتاء مقصود بها تهيئة مناخ ديمقراطي، تعبّر فيه التيارات السياسية والحزبية عن رؤيتها ومواقفها مع الإقليم أو ضده بكل حرية وشفافية، وذلك من شأنه (خلق) مناخ (اصطفاف) يهدد وحدة إقليم لا تنقصها التصدعات والانقسامات.. فالمؤتمر الوطني مثلاً حسم أمره وأتخذ قراره بالوقوف مع تعدد الولايات، ولكن داخل المؤتمر الوطني جماعات وجيوب دارفورية مع الإقليم الواحد، وقد جهرت قيادات من بينهم “الشفيع أحمد محمد” و”نصر الدين محمد عمر” والفريق “إبراهيم سليمان” في فترات سابقة بانحيازها للإقليم الواحد.. والمعارضة أيضاً لا تقف على قلب رجل واحد مع خيار الإقليم الواحد، فحزب الأمة مع تعدد الولايات، وبعض قيادات المؤتمر الشعبي مع تعدد الولايات، والحزب الاتحادي الديمقراطي مع ضعف نفوذه واضمحلاله حد التلاشي مع تعدد الولايات، لكن حاملي السلاح وضحايا الحرب من النازحين في المعسكرات بالداخل واللاجئين في الخارج مع خيار الإقليم، بل يزعم بعضهم أنه خيار دونه استمرار الحرب.. وتجربة الجنوب القديم ينبغي أن تتعلم منها النخب السياسية وتستفيد من دروسها وإلا أصبحنا مثل قوم (البربون)، فالجنوبيون غداة نيل السودان استقلاله طالبوا بالحكم الفيدرالي، ولم يجدوا أذناً صاغية لمطالبهم، بل تنكرت الأحزاب للعهود التي قطعتها للجنوبيين بمنحهم الحكم الذاتي في إطار فيدرالي، واندلعت الحرب وأهلكت الأنفس والثمرات ليعود الشمال للقبول بالحكم الذاتي، ولكن عام 1972م حينما وقعت اتفاقية أبابا.. وحينما طالب بعض الكُتّاب والصحافيين في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي من خلال صحيفة (السوداني) الدولية بمنح الجنوب حق تقرير المصير، استخدمت الدولة كل قوتها المادية لقمع الصحفيين والزج بصاحبها في غياهب السجون، وصدرت الفتاوى الفقهية (بحرمة) تجزئة أرض المسلمين، ودعا بعض فقهاء السلطان الحاكم المسلم لاتخاذ من التدابير ما يحمي أرض الإسلام من التجزئة، وأرض الإسلام التي يزعمون هي (خور إنجليز)، و(أطلع بره) وتوريت (وكر الخديعة والدم) كما وصفها أول من بذر ثمرة التيار الانفصالي وهو الشاعر “الهادي آدم”.. وعادت الحكومة بعد واقعة إغلاق صحيفة (السوداني) الدولية لتمنح الجنوب حق تقرير المصير من خلال اتفاقية الخرطوم للسلام مع فصيل “رياك مشار” و”لام أكول”، ولكنها لم تمض في تطبيق النص وإجراء الاستفتاء.. وتقدم الحركة الشعبية في مفاوضات أديس أبابا 1998م أطروحة الكونفدرالية، دولة واحدة بنظامين، وحينها قالت الحكومة إن الكونفدرالية دونها مهج وأرواح كل السودان، والسماء وأقرب للأرض من القبول بالكونفدرالية.. لكن عام 2009م حينما اقترب موعد استحقاق استفتاء جنوب السودان، عاد الشمال وطلب من الحركة الشعبية القبول بكونفدرالية يتم التراضي عليها بدلاً عن الدخول في مغامرات الاستفتاء، ولكن الجنوبيين قالوا (فات الأوان) كما يغني الفنان “صلاح بن البادية”.
وحينما تقبل الحكومة باستفتاء دارفور حول نظام الإقليم الواحد أو الولايات المتعددة، فإنها من حيث لا تعلم تعيد إنتاج قضية الجنوب مرة أخرى، ولا تسأل الدولة نفسها بعد تجربة امتدت منذ 1994م حتى 2013م عن ثمرات الحكم الاتحادي هل حقق الأمن والاستقرار؟ وهل شهدت الولايات تنمية حقيقية لبت طموحات الجماهير؟ وما قدر مساهمة الحكم الاتحادي في النزاعات الدامية التي تشهدها أطراف السودان، وقد شهدت الحكومة بلسانها لا بتقارير المنظمات (المغرضة) أو الأحزاب المعارضة، بأن ضحايا النزاع في دارفور وحدها قد بلغ (10) آلاف قتيل، وهو رقم كبير جداً، حيث لم يسقط في الصراع العربي الإسرائيلي منذ عام 1948م وحتى اتفاق أوسلو هذا العدد من الشهداء والقتلى.. ودارفور في أسبوع واحد قتل فيها (500) نسمة في محلية (السريق بني حسين)، وعجزت السلطة الولائية والاتحادية عن القبض على قاتل واحد وتقديمه للمحاكمة؟!
إن مأزق الاستفتاء المرتقب في دارفور ليس في سكان القرى والمدن ودارفور الاجتماعية، ولكن المأزق الحقيقي في سكان المعسكرات من النازحين في الداخل واللاجئين في دول الجوار ودول الغرب وحتى إسرائيل.. هؤلاء (يختزنون) في مخيلتهم مرارات وفظائع الصراع الدامي، وتدفعهم تلك المرارات لمساندة أية أطروحة تنأى بهم عن المركز.. تلك هي حقائق الواقع.. ومأزق الاستفتاء الذي ستدخله دارفور قريباً جداً.
} حزب الأمة والدور المفقود
{ فقد حزب الأمة القومي بزعامة السيد “الصادق المهدي” في السنوات الأخيرة فاعليته في الساحة السياسية، وباتت أغلب مساهمات الحزب تقديم صورة شائهة للصراعات داخله، حيث تعددت تيارات الحزب وتصدعاته وانقسم إلى عدد من الأحزاب الصغيرة، حتى بات عصياً على المدققين في الإحصاء معرفة العدد الحقيقي لأحزاب الأمة في الساحة الآن.. والصراع داخل حزب الأمة لا طائل من ورائه، فالحزب يقف في صف المعارضة، فكيف هي حاله إذا وصل إلى السلطة حيث يصطرع القيادات للحصول على المغانم؟!
محور الصراع داخل حزب الأمة حول وراثة الإمام السيد “الصادق المهدي”، حيث رمى السيد “مبارك الفاضل” شباكه حول الموقع.. ولكن أبناء “الصادق” وبناته زاد طموحهم لوراثة الأب، رغم أن فكرة الوراثة هي التي أزاحت “حسني مبارك” من السلطة وأغرقت سوريا في مستنقع الدماء.. ولكن أبناء “الصادق” من العقيد “عبد الرحمن” في القصر الجمهوري و”مريم” بصف المعارضة و”بشرى” بجهاز الأمن يتوقون لوراثة الوالد الذي بات على مقربة من كرسي المعاش الإجباري، لكنه متشبث بمقعده، ودخلت شخصيات مثل د. “مادبو” لجة الصراع في محاولة لـ(إخراج) رئاسة حزب الأمة من عباءة (آل المهدي) وإتاحتها للسودانيين الآخرين بالكفاح والجهاد المدني، ولكن “الصادق” أزاح ابن ناظر الرزيقات من دائرة الفعل، وقذف به إلى مقاعد المتفرجين، وفي الأسبوع الماضي عادت انقسامات حزب الأمة من جديد وصراعاته الداخلية، وبات الدكتور “إبراهيم الأمين” الأمين العام لحزب الأمة في مرمى نيران الفرقاء الآخرين، ودخل في عراك مع د. “مريم الصادق” من جهة، ومن جهة أخرى مع الأمين العام السابق الفريق “صديق محمد إسماعيل” الذي بات حزب الأمة يتحسر يوماً بعد الآخر على مغادرته موقع الأمين العام.. وفي ليل وظلام حقبة طبيب النساء والولادة تذكر الأنصار وقيادات حزب الأمة إشراقات ضابط الشرطة الفريق “صديق”.. والصراعات الداخلية في حزب الأمة حول الوراثة والزعامة أفقدت الحزب دوره في الساحة السياسية، وأصبح من أضعف الأحزاب في الساحة رغم رصيده الجماهيري.. فكيف يستعيد هذا الحزب بريقه القديم؟!