تقارير

تقارب الوطني والشعبي.. هل يختزل الأزمة الوطنية في الإسلاميين؟!

ظل الدكتور “حسن الترابي” صامتاً لشهور طويلة.. لم يطلق تصريحاً (يعكر) صفو ومزاج المؤتمر الوطني، و”الترابي” حينما يتحدث يثير حديثه جدلاً، وحينما يصمت تتداعى الأسئلة عن أسباب الصمت!! وفي معسكر المؤتمر الوطني منذ توقيع بعض أحزاب المعارضة على وثيقة أسبغ عليها د. “نافع علي نافع” اسم (الفجر الكاذب) بينما سمّاها أمها وأبوها بـ(الفجر الجديد)، لم يدعُ د. “نافع” قادة المؤتمر الشعبي للحس (كيعانهم) أو حتى أصابعهم بعد تناول الطعام.. وشهدت ساحة العراك اللفظي بين الإسلاميين هدوءاً ووقفاً لإطلاق أعيرة الألسن التي قتلت الكثير من (القيم)، ووأدت غير قليل من بيارق الأمل، وأضحى الهائمون في محراب عودة الصفاء لأيام خلت حينما كان الدرب واحداً والهم مشتركاً، مثل حال الشاعر “متمم بن نويرة” الذي جرحه موت شقيقه مالك مقتولاً بنصل مزق أحشاءه.. فجلس الشاعر على قبر شقيقه وأنشد أبياتاً من الشعر نستعيرها هنا، لتشابه حاله وحال التيار الإسلامي في السودان لمحنته التي طالت..
فقال أتبكي كل قبر رأيته   لميت ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الشجى يبعث الشجى   فدعني فهذا كله قبر مالك!!
انسابت ما بين الأشواق والأتراح اتصالات صامتة بين قيادات في المؤتمر الوطني وأخرى في المؤتمر الشعبي، تجاوزت مرحلة العتاب المتبادل ومآخذ كل طرف على الآخر، وولجت ساحة قضايا الوطن الحقيقية.. كيف ينظر إليها كل طرف؟.. وأي مخرج تسلكه القضية الوطنية بعد أن احتشدت الساحة بكل احتقانات النفوس وتباعدت المسافات بين القوى السياسية حتى كادت أن تبلغ مرحلة التعايش المستحيل؟! وحينما جلس “علي عثمان” ود. “علي الحاج” في برلين تحت صقيع أوروبا كانت الخرطوم تشهد في لياليها الصامتة لقاءات جمعت رموزاً فاعلة في المؤتمر الوطني بأخرى نافذة في المؤتمر الشعبي.. وقيادات الوطني مسموح لها من الرئيس “البشير” بالتفاوض والحوار، ونافذو الشعبي حصلوا على دعم الشيخ ومباركة جهودهم للتقارب مع إخوان الأمس، وما بين الرياض والمنشية وشارع المطار مسافة قريبة بأبعادها الهندسية، وبعيدة كأن ما بين مكة ونيودلهي حيث الإسلامي “محمد إقبال” وهو يصف طريقه نحو حركة التجديد الإسلامي في مجتمع بعضه يعبد الشجر، وآخر يقدس البقر، وثالث يعتقد في الحجر، و”محمد إقبال” يقول (أرافق في طريقي كل سار وأعطيه نصيباً من طريقي ولم أر في طريق مستعداً يكون نهايته رفيقي).
وقد اعترف د. “علي الحاج” في رسالته للقوى السياسية بأن للغربة الجسدية عن الوطن أثرها على عاطفة الإنسان وميوله وشخصيته، حيث قال: المرارات التي ترسبت لبعض ممن في الداخل ربما تيسر لي بصفة شخصية التجاوز عنها لأسباب ذاتية وموضوعية قد لا تتوفر لدى من هم في الداخل). ولكن قطار التقارب بين الإسلاميين اتسع لأكثر من تعريف، التيار الإسلامي الذي يختزله في الفرقاء الوطني والشعبي، ويضيف إليهم أحياناً السلفيين والتكفيريين وبعضاً من الصوفية المشتغلين بالسياسة والدنيا وبهارجها من غير الصوفية (معتزلة) السياسة كـ”البرعي” الذي استعاذ من الوقوف أمام أبواب (الحاكم والحكيم)، طلب رزق ومال وزاد دنيا عند الأول، أو شفاء من علة تصيب الجسد أو النفس عند الثاني.. وحينما يطلق شباب الإسلاميين أيام صفوهم وعنفوان مشروعهم (لا لدينا قد عملنا) يهيم الشباب في دنياوات من الصفاء الروحي، وتتوق النفوس لجنة عرضها السماوات والأرض قبل تجريد تلك الشعارات لواقع حيث تتبدى المفارقة، فالذي لا لدنيا قد سعى لا يؤسس حزباً ولا مصارف ودوراً ويجري الانتخابات ويجعل صناديق الانتخابات هي الطريق المفضي إلى كراسي الحكم.. ولكنه يصوم عن الشهوات ويفطر على شق تمرة ويقيم الليل.. ونسائم الليل تشهد له حينما يأتي الناس ليوم الحساب أفواجاً.
واقعية السياسة وإحساس المؤتمر الوطني الحاكم بأن السلطة في ذاتها إذا اتخذت كغاية وليست وسيلة، لن يشفى الوطن من جراحاته، وأن الحوار مع “عرمان” و”عقار” من عصبة العلمانية المسلحة لا قيمة له إن كان الأقربون الأولى بالحوار، وليس المعروف، بعيدين وأقرب إلى صف التيار العلماني الذي يتدثر بعباءة عرقية، ويتكئ على دعم دولي يتربص بالنظام ليل نهار، وبلغ الرسل في هجعة الليل د. “الترابي” من الإسلاميين قبل أن ينقل الإعلام لقاءات “الترابي” بشركاء القصر من غير أبنائه كالسيد “موسى محمد أحمد”، ثم ابن صهره “عبد الرحمن الصادق المهدي” الذي بات بفضل “البشير” الأقرب لوراثة الأب وإن تعثر ذلك على المدى القريب.
وما بين برلين حيث اعترف د. “علي الحاج” بأن مبادرته للقاء “عثمان” نبعت من قناعة ذاتية بقوله: (درجت على عيادة كل من يقصد ألمانيا مستشفياً مما أعرف لذلك جاءت زيارتي للأخ “علي عثمان محمد طه” النائب الأول للرئيس بمبادرة مني على الرغم من شعوري المبدئي بالتكتم على أخبار الزيارة)، وشجاعة د. “علي الحاج” بالاعتراف بالمبادرة جعلت لما يقوله في رسالته مصداقية لمن تلقاها على وسائطه، الخاصة من أطلع عليها بعد أن بعث بها صاحبها للصحف والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي. إلا أن لقاءات (العليين) في برلين سبقتها لقاءات هنا في الخرطوم بين رموز في الشعبي وأخرى في الوطني.. كان لنائب رئيس الجمهورية د. “الحاج آدم يوسف” الفضل أولاً في فتح ثغرة صغيرة في الجدار المسدود.. وتواصلت حوارات ومهاتفات من البروفيسور “إبراهيم غندور” الذي يعدّ من القيادات التي لها قبول في معسكر الشعبي ونفوذ واسع في مرابع الوطني!! والمياه التي جرت في الأيام الماضية ما بين المنشية والقصر عبر شارع النيل الجديد، لن تغني عن التفاوض بصدق واحترام للآخرين ممن يحملون السلاح في المنطقتين والدارفوريين، والأحزاب المعارضة الأخرى، وأحزاب المنطقة الدافئة ممثلة في (السيدين) “الميرغني” و”الصادق” و(السيدين الصغيرين) في القصر، حيث الحاجة الوطنية لحوار القصر والقصر تماثلها حاجة الحوار بين (الرئيس وخاله)، وتلك من عجائب السياسة التي لا تنقضي.. فأحزاب المعارضة بتعدد مشاربها الفكرية، ودون استثناء، لها تجارب في الحوار مع حزب المؤتمر الوطني.. و(المعارضة الدافئة) ممثلة في الحزبين الأمة والاتحادي الديمقراطي يفصلها عن المؤتمر الوطني كرسي الحكم فقط.. وبين الوطني والسلفيين والتكفيريين إرث في التعاون والأرضية التي تجمع ولا تفرق، ولكن الحوار الحقيقي بين المشروعين النقيضين (الإسلامي الحاكم، والعلماني حامل السلاح).. وحتى لا ينتهي التقارب بين القوى الإسلامية إلى اصطفاف جديد و(فرز) آخر، فإن فكرة المؤتمر الجامع أو المؤتمر القومي لا غنى عنها لكل الأطراف.. وقد عبر “علي عثمان محمد طه” في مبادرته الأخيرة عن عافية نفسية لحزبه بالحوار مع كل صاحب رأي آخر، بمن في ذلك الذين (اصطفوا) خلف حاملي السلاح في كمبالا.. وقد أطلقت السلطات سراح المحبوسين لأسباب سياسية.. في انتظار إطلاق مبادرة لجمع الصف الوطني ووقف إطلاق النار على جبهتي الجبال ودارفور.. فالتعدد هو سنة الله الطبيعية، وحتى مجتمع الصحابة وهو أكثر المجتمعات تجانساً فكرياً لم يكن يخلو من بعض الاتجاهات المختلفة لها اجتهاداتها المختلفة في الحكم على الرجال والسياسة، لكن اختزال الأزمة الوطنية في محيط الإسلاميين واعتبار التفاهم مع المعارضة الدافئة ممثلة في الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي، ثم إعادة الصفاء بين الإسلاميين الحركيين من الوطني والشعبي، لن يكتب وصفة الدواء المناسبة لأمراض الوطن التي استعصى علاجها.. فالسودان (المتبقي) بعد ذهاب الجنوب أحرى به الاعتراف جهراً بوجود تعدد إثني وثقافي وفكري، وذهاب الجنوب إلى سبيله لا يعني أن البلاد قد حسمت فيها تباينات الهوية.. فالسودان متعدد ثقافياً وإثنياً ودينياً ما بين فور وزغاوة ومراريت ومساليت دياناتهم الإسلام ومشيختهم في فاس، حيث مرقد الإمام “أحمد التجاني”، وما بين شكرية وجعليين وشايقية ينسبون أنفسهم إلى شجرة النبوة، أجدادهم إما “العباس بن عبد المطلب” أو “يزيد بن معاوية” أو “بنو هاشم”، فعرب السودان ومستعربوه لا ينسبون أنفسهم لغير قريش من عرب الجزيرة، وما بين نوبة في طروجي وقمز ووطاويط في النيل الأزرق، وبجة وبني عامر في الشرق تمتزج السحنات والأعراق، وتتباين الثقافات، وفي ذلك مصدر ثراء وقوة لا مصدر ضعف وشقاق وانقسام.. فالسودان كيف يدير (تنوعه) ويقتسم سلطته ولا تتعسف جماعة على أخرى.. تلك هي الدروب المفضية إلى توافق وطني وجمع صف ووحدة كلمة، أكثر من اختزال كل الأزمة في لقاءات النخب من الإسلاميين وشركائهم في المعارضة والحكم..
{ عودة غرب كردفان
مرة أخرى وعدت الحكومة في خطابها أمام البرلمان (الاثنين) الماضي، بعودة ولاية غرب كردفان، بعد أربعة أشهر من إعلان سابق في أعياد الاستقلال بالدمازين، حينما تعهد الرئيس في خطابه بإعادة الولاية التي تم تذويبها عام 2005م، وبعد (8) سنوات من الذوبان لا تزال ولادتها متعثرة، (تتوجع) البطن وتهرع (الداية) لاستقبال المولود، ولكن تبزغ شمس اليوم التالي والأم تحمل متاعها وتعود إلى زراعتها في صحة وعافية، حتى أطلق البعض ساخراً على عودة الولاية (الحمل الكاذب) أو حمل كبيرات السن من النساء.. وتعتري عودة ولاية غرب كردفان من الناحية العملية مصاعب سياسية هي التي (أجلت) ميلادها.. أولى المصاعب أن أكبر محليات الولاية العائدة وأكثرها ثراءً بالبترول- وهو نقطة ضعف الحكومة المركزية- تقع في منطقة لقاوة التي تمثل جزءاً من جبال النوبة، أو إن شئت الدقة تمثل أجزاء كبيرة من تلك الولاية مكوناً أساسياً لجبال النوبة.. وقد جاء في اتفاق (سويسرا) لوقف إطلاق النار الذي نهض على إثره اتفاق (مشاكوس) ومن ثم (نيفاشا) وبرتوكولات فض النزاع في المنطقتين وأبيي، جاء في اتفاق (سويسرا) تعريف لماهية جبال النوبة، ووقعت الحكومة على أن جبال النوبة هي (جنوب كردفان + الجبال الغربية بمحلية لقاوة) ويرفض حاملو السلاح من أبناء النوبة تبعية المنطقة إلى غرب كردفان، وترفض بعض قيادات المؤتمر الوطني من غير المنتظرين حقائب الاستوزار والتوظيف كذلك تبعية المنطقة إلى غرب كردفان، وبعض القيادات الواقعية تعدّ تذويب المنطقة بموجب اتفاق يستدعي إعادتها باتفاق حتى لا تعود الولاية إلى الوجود وتعود الجروح في جسدها من قضية أبيي القديمة إلى قضية أبيي جديدة (لقاوة)، والسودانيون لا يعتبرون بالتاريخ وأحداثه، كما أن النزاع الأخير بين بطون المسيرية، وقبل تجفيف الدموع ودفع الغرامات والديات والفصل بين المجموعات التي تقاتلت، يجعل من عودة الولاية وتسمية الفولة عاصمة لها تنطوي على مخاطر، تجعلها كالذي يسير على حافة الهاوية.
وقد أفلحت قيادات منطقة (حمر) بقيادة الوالي المرشح “عبد الواحد يوسف” بقبول عودة غرب كردفان والفولة عاصمة لها، ولكن وفق (محاصصات) وتفاهمات بين القيادات (تسترضي) الغاضبين، والرئيس قد تعهد بعودة غرب كردفان في غضون يونيو/حزيران القادم، أي قبل احتفالية الإنقاذ بالذكرى الرابعة والعشرين لوصولها إلى السلطة.. وهي فترة ربما يتوصل خلالها المؤتمر الوطني ومتمردو قطاع الشمال لاتفاق يقطع نهائياً بعودة غرب كردفان.. وقد بدت الحركة الشعبية قطاع الشمال أكثر زهداً في وجود غرب كردفان ضمن جبال النوبة أو جنوب كردفان، لحساب معادلات السياسة الداخلية، والانتخابات التي قد تجعل للحركة الشعبية في جنوب كردفان القديمة اليد العليا إذا ذهبت غرب كردفان إلى سبيلها.. لكن ثمة تيارات في أوساط مثقفين ومستقلين ومعارضين، وبعض الذين يفكرون أصالة عن أنفسهم داخل المؤتمر الوطني، تطرح رؤى حول حكم ذاتي يجعل غرب كردفان ولاية ضمن ثلاث ولايات في إقليم جنوب كردفان، لتحقيق قدر من التمايز والخصوصية لمنطقة تذوقت مرارة الحرب، ما جعلها تهفو إلى السلاح وتقبل عليه إقبال المرضعات على الفطيم.. ولكن مشروع إعادة غرب كردفان يتكئ على أسباب أمنية واقتصادية كأولوية للحكومة المركزية التي تسعى إلى بيئة حاضنة لحقول النفط لا تضطرب أمنياً، ولا ترتفع فوق صنابير الذهب الأسود فوهات البنادق!! وحسابات السلطة المركزية غير حسابات قيادات المنطقة، ولكن يلتقي المشروعان عند عودة الولاية، بيد أن الواقع يجعل العودة عسيرة ومتعثرة!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية