وفد شعبي إلى إسرائيل .. دبلوماسية الخِفة في عهد الإنحلال القحتاوي !!
جاء في أخبار الأسافير أن رجل الأعمال المعروف و النائب في برلمان (الإنقاذ) السيد “أبو القاسم برطم” قد أعلن عن شروعه مع آخرين في تشكيل وفد شعبي سوداني يتوجه إلى إسرائيل خلال الفترة المقبلة ! و قال “برطم” في تصريحات صحفية إن الوفد سيضم شخصيات سياسية و قومية ، منادياً بإعادة ترتيب السياسة الخارجية للسودان بما يتوافق مع مصالح البلاد العليا !!
لكن السيد “برطم” لم يوضح لنا كيف ستتحقق مصالح السودان العليا من خلال رحلة عبثية تشبه تلك الرحلة المهزلة التي تزعمها قبل سنوات رجل أعمال آخر هو السيد “عصام الشيخ” و ضمت نظار قبائل و عُمد و قيادات إدارة أهلية ، عبروا المحيط الأطلسي و حطوا في “واشنطن” بجلاليبهم و عُماماتهم البيضاء ، لإقناع الإدارة الأمريكية و رجال الكونغرس برفع العقوبات الاقتصادية عن السودان !! و قد ترصد (قحاتة) أمريكا آنذاك ، وفد النُظار و العُمد و سيّروهم بالهتافات المعادية و اللعنات و أهانوهم أيما إهانة ، بعلم المخابرات المركزية ، و وسط سخرية موظفي الخارجية الأمريكية الذين سهّلوا تلك الزيارة في إطار سياسة تزجية الفراغ الدبلوماسي و تحريك الدُمى في مسرح العرائس !
هل يمكن أن تتحقق مصالح السودان العليا بمثل هذه (الخِفة) و هذا الابتذال في التعامل مع ملف بالغ الحساسية الأمنية و السياسية كملف العلاقة مع إسرائيل ؟!
علينا أن نقرأ التاريخ جيداً و نفهم دروسه ، و نستفيد من تجارب الدول من حولنا التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل .
أول دولة عربية فتحت باب التطبيع كانت “مصر” و ذلك في سبتمبر عام 1978م ، عندما وقع الرئيس “محمد أنور السادات” اتفاقية “كامب ديفيد” مع رئيس وزراء إسرائيل “مناحيم بيجن” برعاية الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” . قبلها باغت “السادات” العالم العربي بزيارته الصادمة إلى “تل أبيب” في 19 نوفمبر عام 1977م و خاطب خلالها الكنيست الإسرائيلي .
بعد نحو عامين ، افتتحت إسرائيل أول سفارة لها في القاهرة عام 1980م ،كما ابتعثت مصر سفيراً لها في “تل أبيب” .
لكن خيط التمثيل الدبلوماسي بين البلدين انقطع عدة مرات ، بسبب رفض الشارع المصري المتواصل ، حتى اليوم ، لإقامة سفارة إسرائيلية في مصر .
سحبت مصر سفيرها من إسرائيل لمدة (4) سنوات ، و بقيت السفارة الإسرائيلية في القاهرة بلا سفير ، من العام 1982 و إلى العام 1986م ، بسبب اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان .
و انقطع التمثيل الدبلوماسي بين البلدين في الفترة من عام 2000 إلى العام 2005م ، تضامناً مع انتفاضة الشعب الفلسطيني .
و المتابع لمسار العلاقات المصرية الإسرائيلية ، سيلاحظ أن التطبيع – رغم مرور أكثر من (40) عاماً عليه – ما يزال محصوراً في إطار رسمي مخابراتي محدود ، بما يحفظ مصالح مصر في المنطقة ، و ما لا يسمح لإسرائيل في ذات الوقت بالتغلغل في المجتمع المصري السياسي و الإعلامي و الثقافي .
هل رأيتم السفير الإسرائيلي في القاهرة يوماً على شاشة إحدى الفضائيات المصرية ؟ هل طالعتم حواراً معه على صفحات (الأهرام) و (الجمهورية) و (الأخبار) أو أي صحيفة مصرية مستقلة ؟
لن تجد ظهوراً لإسرائيل في أي محفل مصري رسمي أو شعبي ، رغم سنوات التطبيع الأربعين !!
الشارع المصري يرفض التطبيع مع إسرائيل بقوة ، و الحكومات المصرية المتعاقبة منذ عهد “السادات” و “مبارك” و “مرسي” و “السيسي” تفهم نفسية المواطن المصري ، و لذلك هي تأخذ من إسرائيل ، و لا تعطيها ، تعمل معها في نطاق محدود في إطار المصالح الأمريكية المشتركة في الشرق الأوسط ، لكنها لا تكشف لها ظهر الدولة المصرية ، و لا تسمح باختراق أمنها القومي ، و لو كان ذلك في هيئة وفود شعبية ، كوفد التمسح و التزلف المؤذي الذي يرتب له السيد “أبو القاسم برطم” !!
مصر التي استردت باتفاقية “كامب ديفيد” كل أراضي “سيناء” وهي تساوي ضعف مساحة “فلسطين” ، لا تكاد تسمع فيها بوفود شعبية تضم شخصيات قومية تتوجه إلى إسرائيل ، أما في بلد (الهَمَلة) و الإنحلال و الانهيار في العهد (القحتاوي) ، فإننا نسمع عن جمعية صداقة سودانية إسرائيلية و وفود شعبية حزمت حقائبها استعداداً للهبوط في مطار “بن غوريون” !! يحدث هذا قبل أن تنال حكومتنا المُستضعَفة التي تفاوض في “أبوظبي” نذراً قليلاً مما تريد !
حتى لو طبَّعنا .. فإن إسرائيل لا تملك لنا نفعاً سوى حمل الرئيس الأمريكي الأخرق ” دونالد ترمب” على إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب ، لكنها لم و لن تمنح بلداً مالاً .. و لا قمحاً .. و لا بنزين ، و لن تبني مصنعاً و لن تزرع حقلاً ، و لو كانت تفعل لكان أولى أن تفعل في جنوب السودان و إريتريا ، فها أنتم ترون إخوتنا الجنوبيين قد عادوا إلى الخرطوم بمئات الآلاف !!
أين هيئة الاستخبارات العسكرية .. و أين جهاز المخابرات السوداني ؟! أوقفوا هذا العبث حمايةً للأمن القومي السوداني .
أما بعد أن ترفع أمريكا كل العقوبات عن كاهل شعبنا ، و تنفذ كل مطالب الفريق “البرهان” ، فإن التطبيع ينبغي أن يهتدي بتجربة من سبقونا ، تطبيع (رسمي) في زاوية حادة ، لا وفود شعبية .. و لا مسرحية .. و لا يحزنون ، فإن إسرائيل إذا دخلت بلداً مسلماً خرّبته و فتنت شعبه .