الثقافة هي الحل!!
في المرحلة المتوسطة كنا شغوفين بالقراءة لا سيما قراءة الشعر والآداب بصورة عامة، والسبب في ذلك معهدنا العريق (بخت الرضا) بمدينتنا الدويم التي ستنهض من كبوتها بإذن الله، فقد زرتها مؤخراً ورأيتها قد بدأت تدب فيها الروح، خاصة بعد بناء الكوبري العملاق الذي ربط شرقها بغربها، ومصنع سكر النيل الأبيض الذي يعد من المشاريع العملاقة، والمشروعات من إنجازات الإنقاذ، فشكراً جميلاً لها فقد أبدعت بالإنجازين العظيمين، وقطعاً جيل الشباب سيجنون ثمرات هذين الإنجازين العظيمين، يلاّ شمروا السواعد للشباب الساكن بالمدينة أو قراها بالضفتين الغربية والشرقية، وخضروها أرضنا البكر التي حينما كنا صغاراً أكلنا من خيرها خضراً وفاكهة ولبناً وجبناً وسمناً وعسلاً وسمكاً، والذين تكدست بهم المدن البعيدة والقريبة أدعوهم لزيارة الدويم ليسلموا على الأهل ويترحموا على الميتين من ذويهم ويتيقنوا من أن الحياة والروح تدبان في المدينة وأمصارها، عندها ربما تأتي عودتكم طوعاً واختياراً، واعلموا أن الزراعة وحدها هي كنزنا الذي لا ينضب ولا يفنى..
قبل عقود من الزمان حينما كان العود أخضر، كنا نقرأ ونزرع ونشاهد السينما في المساء، ونذهب إلى مسارح المعهد لنشاهد (عطيل) و(هاملت) و(العباسة أخت الرشيد)، بل كنا نشارك بالتمثيل في تلك المسرحيات.. رحم الله أستاذنا “الفكي عبد الرحمن” الذي قاد حركة المسرح بالمعهد والمدينة، ولم تكن المشاركة قاصرة على الصفوة من المتعلمين، بل امتدت إلى عمال المعهد والشغيلة والصنايعية. وكانت أندية الصبيان مصانع للرجال ترتق الفاقد التربوي بما تقوم به من تعليم الصبية حرفاً متعددة إلى جانب رفدهم بالنشاط الرياضي والإبداعي، وكان نادي الصبيان الوحيد بالمدينة مركزاً للإشعاع الثقافي وصنع الرجال، والآن بالمدينة مركز للشباب في موقع جميل قرب النيل، ليتنا أعدنا النظر فيه وأخذنا بمنهج نادي الصبيان لنلم شعث ثروتنا الهائلة من الشباب لصياغتهم بالنحو الذي ينفعون فيه أنفسهم وأهلهم ومدينتهم.. تتقافز في ذهني الأفكار للدرجة التي وصلت فيها إلى القناعة بضرورة العودة لوطن الميلاد، لأن المدينة الكبيرة أخذت سنين الشباب وأعطيناه ولم نستبقِ شيئاً، وقد أضحت الشقة التي أسكنها سجناً اختيارا يتساقط فيه ما تبقى من أيام العمر كما تتساقط أوراق الأشجار التي تذروها الرياح.. يا جماعة الخير العاصمة تكدست بالبشر، وطبعاً من أسباب الهجرة إليها والتكدس ما طرأ على الأرياف والأمصار من بيئة طاردة، لكن على الأقل دعونا نأخذ نموذج النيل الأبيض، الآن كل الدلائل تشير إلى بيئة ومناخ واعد بالنماء والخير، ولن أتحدث ناقداً للقائمين بأمر العباد بالمركز أو حكومة الولاية، لكن أهمس في آذانهم بأنه بقليل من الجهد يمكن أن نعيد الولاية إلى سيرتها الأولى.. لاحظوا بدأت مقالي هذا بالثقافة وهأنذا أخوض في مقترحات التنمية والعودة الطوعية من المركز إلى الريف، ويقيناً للثقافة دور في حديثي هذا لا سيما وأنا شاهد عصر على كساد منطقتنا مع بداية سبعينيات القرن الماضي، وشاهد عصر كذلك على مؤشرات النماء في العام 2013م، ودونكم النموذج الصيني العظيم الذي قاده القائد “ماوتسي تونغ”، عوَّل على الثقافة وآمن بالأرض وهباتها، ثم تحول كل الشعب الصيني إلى عمال وزراع آخذين في الاعتبار مقولة قائدهم العظيم (مليون ميل تبدأ بخطوة).. ويا جماعة والله أنا ما شيوعي!! لكن استشهدت بتجربة ماثلة أمام الجميع ولا أغمط ديننا الحنيف الذي إن تمسكنا به لما أصابنا الضلال، فالمولى عزّ وجلّ قال: (وَقُلِ اعْمَلُوا….)، ولو قلّبنا السنة المطهرة والقرآن الكريم لوجدنا أن جُلّ عبادة الخالق تكمن في العمل والتعاضد والتكاتف والتراحم، لكن هل حقاً نحن أمة السودان نعمل؟ متى بدأنا العمل؟ هل عملنا مباشرة بعد نيلينا للاستقلال؟ أي مشروع كبير قد أنجزناه؟ وحتى مشروع الجزيرة صنيع المستعمر خربناه ونتحسر على قطنه طويل التيلة، ونقوم ونقع كل يوم نتباكى على الماضي وجراحو!!
أنا قلت مع المرحوم الفنان “خوجلي عثمان” أغنية بسيطة لحنها المرحوم الموسيقار “علي مكي” قلت: (نيلك.. أرضك.. زرعك.. ناسك.. أصلك.. فرعك.. بحبك من ما قمت.. بحبك يا سودان.. وهمي أشوفك عالي.. ومتقدم طوالي.. وما بخطر على بالي.. غير- بس – رفعة شأنك.. وتقدم إنسانك.. عموم أهل السودان.. وتابعوا معاي الأغنية بصوت صديقي المرحوم “خوجلي” الذي فرح بهذه الأغنية كثيراً، وكان عازماً أن يقدم مثل هذه الأغنية أغنيات عديدة لكن جاءت منيته بذلك الحادث المشئوم، يرحمه الله.. بالله كم مرة سمعتم هذه الأغنية؟ الإذاعات لا تقدم مثل هذا الغناء ولا تحفز صنّاعه على إنتاج مثله، وللأسف هذا مأخذ كبير على أجهزة بث الثقافة الكثيرة المتعددة مرئية ومسموعة، ونحن أحوج ما نكون لتأكيد ثقافة الوطن والتراب، والتغني بحضارته وخيراته وأبطاله حتى يصبح إنسان السودان مدركاً لمثل هذه القيم، مؤكداً انتماءه لهذا الوطن نابذاً للعصبية والجهوية.. أمس.. طفرت الدموع من عينيّ وأحد أفراد أسرتي يعنفني لأنني كتبت أحث ابن خالتي على العمل أياً كان شكل ومضمون العمل! وقبلها غضبت لأن أحد أصدقائي المغتربين قال لي: كيف عايشين في البلد ده؟ عايشين كيف! يا ابن الـ.. استغفر الله.. وقبل أيام كتب صديقي “الهندي” مناصراً أهلنا الأحباش باحترام هجرتهم لنا لأنهم يعملون في مشاريع الحصاد بالقضارف!
طيب أولادنا وينُن؟ واحد علق على العمال البنغلاديش الذين يعملون في نظافة العاصمة بأنها اتملت بنغلاديش! طيب ما تتملي إذا كان صبيانا قاعدين في الضللة ينتظروهن مصروف اليوم من ذويهم ويتأففون من العمل كمعال نظافة أو زراع أو حتى صنايعية ويحلمون بالهجرة من وطن يلتقط أهله الذهب من على سطح الأرض! يقول لي محافظ الدويم أبدأ مشروع لصيد السمك بخمسين مركباً صغيراً وحفز بعض محترفي الصيد من الكبار ليعلموا الشباب صيد السمك، واشتر حصادهم لتبيعه للمواطنين، وهامش الربح لتطوير المشروع والراجع من السمك ممكن يكون فسيخ أو سمك مجفف.. ولـ”منتصر” ود خالتي العتبى حتى يرضى، ولم أقصد من مقالي السابق إساءته بل تحريضه وتشجيعه على العمل..