طاقتها الاستيعابيّة (10) وتستوعب (40) جثة.. مشرحة أم درمان .. عندما تُنتهك حرمات الموتى!!
وضع صعب للغاية تواجهه مشارحنا، حين تتكدس بها الجثث بأضعاف طاقتها الاستيعابية.. ويتكوم الموتى فوق بعضهم البعض في مشهد يثير العديد من التساؤلات.. لماذا تنتهك حرمات الموتى؟! ولماذا يواجه الطب الشرعي وضعاً محرجاً؟!
الصورة تبدو هنا قاتمة بعض الشيء.. وتحديات عديدة تقف عائقاً أمام هذا الملف الذي يجهل الكثيرون أهميته.. فكلما ازدادت معدلات الجريمة وكثرت الحوادث المرورية عرف الناس أهمية الطب الشرعي وانتظروا تقاريره بفارغ الصبر لتكون الفيصل ما بين ادعاء المحكمة وإنكار المتهم!! فجرائم عديدة يضع الطب الشرعي حداً لغموضها ويفك العديد من طلاسمها، وجثامين عديدة كان هو الناطق الرسمي باسمها!!
وبما أن الحديث عن (المشارح)، فإن مشرحة أم درمان تشكل حضوراً قوياً بينها، فهي تجسد وضعاً مأساوياً، حيث يرقد الموتى فوق بعضهم البعض لتتحول الطاقة الاستيعابية لها بقدرة قادر من (10) جثث إلى (40) جثة!!
{ معاناة مشرحة
سكون غريب لم آلفه من قبل، أرجعته إلى هيبة المكان واحترامه.. فما أن تطأ قدماك غرفة استقبال الجثث بشرحة أم درمان، إلا وتشعر بانقطاعك عن العالم الخارجي.. سكون لا يقطعه سوى صوت مشغل الثلاجة التي تعمل بـ (3) درجات مئوية، وأحياناً يقطعه صوت دكتور “جمال يوسف” مدير المشرحة ونحن نتجول بين ردهاتها يحكي لنا عن (معاناة المشرحة).. ورغم المعاناة التي ترسم لوحة بائسة هناك وفوحان رائحة (الفورملين) التي تزكم الأنوف، إلا أن نظافتها تلفت انتباهك.
لم يكن الدخول إلى المشرحة بالأمر (الهين)، فهو يحتاج إلى تهيئة النفس وإعدادها لمشاهدة ما يصعب النظر إليه.. فقد اعتدنا رؤية أمواتنا بعد أن يتم إلباسهم (الكفن) وهم في طريقهم لمواراتهم الثرى، وما دون ذلك يعد صعباً على الكثيرين، باستثناء العاملين بالمشرحة، فهم رجال كُتب عليهم أن تنحصر حياتهم بين الأموات.. ود. “جمال” رجل اعتاد يومياً رؤية الأموات وتشريحهم ليكون ناطقاً رسمياً باسمهم حين يفصح عن أسباب الوفاة.
أسرار وخفايا عديدة تقبع داخل مبنى المشرحة شديد التواضع.. قصص انتهت فصولها بالموت.. مجهولو هوية لم يتم التعرف على ذويهم، وأطفال حديثو الولادة لم يدر أحدهم من أين ولماذا جاءوا.. ومن أهلهم.. وأي ذنب اقترفوه لكي يلقوا هذا المصير؟! علامات استفهام وتساؤلات جمة يكشف الطب الشرعي عن بعض تفاصيلها.. وربما كل التفاصيل.
مشرحة أم درمان سيرتها الذاتية لا تحوي الكثير، فهي حديثة عهد.. تم إنشاؤها في العام 2009م، وتم تزويدها بثلاجة سعتها (10) جثث فقط، إلا أن معوقات لا حصر لها تواجهها بعد أن صارت ثلاجتها تعمل فوق طاقتها، حيث يتم رص الجثث فوق بعضها البعض!!
وبما أن هذه الثلاجة صممت خصيصاً لتسع (عشر) جثث، بدرجة برودة معينة، فإن تحميلها فوق طاقتها ينقص من برودتها ويحدث خللاً بالأبواب، التي أصبح إغلاقها أمراً عسيراً إلا بعد عمل (رزة) صنعت خصيصاً لها!!
{ عوائق..
(الطب الشرعي هو العلم الذي يختص بتقديم وتشخيص البيانات الطبية للنظام القضائي من أجل تحقيق العدالة).. هكذا بدأ دكتور “جمال” حديثه معرفاً الطب الشرعي وأهميته، وأردف قائلاً: (نحن نتحدث باسم الذين لا يتحدثون، ونسعى إلى تطوير مهنة الطب الشرعي، وداخل مشرحة أم درمان نواجه تحديات عديدة من أجل الحصول على مشرحة بالمواصفات المطلوبة، رغم العوائق التي تتسيد الطاقة الاستيعابية قائمتها، فنحن نعاني من نقص في الثلاجات التي تسع (10) ونقوم بتحميلها (40) جثة، بالإضافة إلى مجهولي الهوية والأطفال حديثي الولادة، فهؤلاء يعدّون من أكبر العوائق، حيث أن شهور (9)، (10) و(11) يكثر فيها الأطفال حديثو الولادة)!! وزاد قائلاً: (نواجه أيضاً مشكلة الأجانب مجهولي الهوية، فقد كان يتم التحفظ على الجثمان مدة ثلاثة أشهر، ثم يتم استكمال الإجراءات الشرطية والتشريحية ويدفن، وقد ورفعنا طلباً للمدعي العام بتقليص المدة من ثلاثة أشهر إلى شهر، وتم تقليص المدة بعد تبليغ سفاراتهم، ويقوم مندوب من السفارة بحضور مراسم الدفن في حال عدم التعرف على صاحب الجثة). ويضيف: (تعد عملية دفن مجهولي الهوية هي الأصعب، لأنها تمر بسلسلة طويلة من الإجراءات، تبدأ بالتصديق من وكيل النيابة، وتتبعها إجراءات (التكفين)، وتبلغ رئاسة المحلية لتوفير (دفار) وقوة من الشرطة للحماية، ومن ثم تتم عملية الدفن).
{ إحصاء سنوي
وحسب د. “جمال”، فإن مشرحة أم درمان في عام 2012م استقبلت (1047) جثة، من بينها (746) جثة تم تشريحها، و(270) جثة لم تخضع لتشريح، و(31) جثة استخرجت لها شهادة وفاة.
وأوضح محدثنا أن عملية التشريح تستغرق ما بين نصف ساعة وساعتين، قال: (ورغم تبعية الطب الشرعي لوزارة الصحة، إلا أنها لا تعير المشرحة أدنى اهتمام، لأنها لا تعود عليها بفائدة، وكل ريعها يعود إلى الجهات الشرطية والعدلية)..!!
وطالب د. “جمال” بتطبيق القرار (46) لسنة 2010م الصادر عن رئاسة الجمهورية، على أن تقوم وزارة العدل والمالية والصحة بدفع مليون جنيه مقابل كل جثة يقوم الطبيب الشرعي بتشريحها.
وبما بما أن العمل بالمشرحة (ذو شجون) وحكايات.. فقد سألنا د. “جمال” عن بعض المواقف التي علقت بذهنه.. فقال إنه قد هزته قصة “جنان” الطفلة الجنوبية التي تم اغتصابها بصورة وحشية..!!
وبعد..
ما تعانيه مشرحة أم درمان من نقص حاد وحاجة ملحة إلى ثلاجات لحفظ جثث الموتى، هو أمر مؤسف بكل المقاييس، فهو يحدث تحت سمع وبصر الأجهزة العدلية ووزارة الصحة، الأمر الذي يدعونا لنطلق عدة تساؤلات: لماذا تقف الأجهزة المختصة مكتوفة الأيدي حيال ما يحدث؟! ولماذا اختارت الجلوس في مقاعد المتفرجين؟! أما كان الأجدى وضع حد لتلك المعاناة التي يعجز الأموات عن وقفها؟!