حاجة "اللازمة".. زهاء خمسة عشر عاماً في مطبخ (المشاهد)
هذه قصة واحدة من سلسلة قصص كثيرة، كلها تصلح روايات تتناول إنسانية الكفاح من أجل لقمة العيش، وبطلتنا هنا، هي حاجة “اللازمة”، وهي امرأة سودانية مكافحة وصبورة، لم تدخر جهداً من أجل أن تسمو بأبنائها حتى صيرتهم رموزاً في المجتمع. ولعل قصة “اللازمة” تختلف قليلاً عما سواها، فهي امرأة جاءت من عمق الريف برفقة زوجها (المرحوم) حاملين آمالاً عراض بمستقبل أفضل، وما أن استقرا حتى أخذت يد المنية بعلها، فحار بها الدليل، لكنها لم تقف في محطة الحزن تلك، بل ذهبت في سبيل الحياة بعزيمة لا تلين، فوضعت خطوتها الأولى عليه ببيع (الكسرة) و(الطعمية)، راجية أن تجد في محرابهما رزقاً تعلم به أبناءها الستة أفضل تعليم، وأن تلبي بعض احتياجاتهم.
وبينما هي تسعى من أجل صغارها، طردت من منزل الإيجار بحجة من صاحب المنزل، أنه ينوي ترميمه من جديد، فتشردت بين (بيوت) كثيرة، يوم هنا وشهر هناك، عندها فقط أيقنت أن بيع (الكسرة والطعمية) لن يسد حاجتها، فقررت أن تطرق باباً آخر من أبواب الحياة عسى ولعل أن يرزقها الله عملاً يمكنها من مواصلة حياتها هي وأبناؤها.
{ في مكتب “غازي”
كانت حاجة “اللازمة” دائمة الدعاء بأن يفتح الله عليها أبواب الرزق، فاستجاب لدعواتها، بأن وجدت عملاً بمكتب القيادي بالمؤتمر الوطني الدكتور “غازي صلاح الدين”، وعملت هنالك (فراشة) تتقاضى راتباً شهرياً (20) جنيهاً، وهو مبلغ كان حينها ذا شأن، حمدت الله عليه كثيراً، وأخذت تسيّر به أمور أسرتها كما تشتهي.
عملت حاجة “اللازمة” مع د. “غازي” لخمس سنوات، ومرت الأيام كالخيال في تحقيق أحلامها رويداً رويداً، حيث تمكنت من تعليم أبنائها، فتخرج الأكبر من بيطرة الخرطوم وزوجت معظم بناتها، لكن أكبرهم أراد أن يكرم والدته على كفاحها من أجلهم فقام د. “صابر” بشراء منزل في أم درمان (الفتيحاب)، ثم قرر الهجرة إلى أمريكا من أجل مساعدة أكثر، بعدها عقدت حاجة “اللازمة” هدنة قصيرة مع العمل للاستجمام والراحة، وفي هذه الأثناء أنجبت ابنتها الوسطى التي كانت تعمل محاسبة في مكتب “ياسر عائس” أول أحفادها. وعندما حضر “ياسر” لزيارتها وتهنئتها أخبرته بأن والدتها تحتاج إلى عمل فوافق على الفور بأن تعمل طباخة في جريدة (المشاهد) في مقرها القديم في العمارة الكويتية، وقد أحبها الجميع هناك.
{ فك التسجيل من مكتب “غازي” إلى (صحيفة المشاهد)
عاصرت حاجة “اللازمة” الجيل القديم من صحفيي (المشاهد)، مثل “شجرابي”، “ياسر عائس”، “مزمل أبو القاسم، “صلاح سعيد” وغيرهم من عمالقة كتاب الصحافة الرياضية الذين كانوا يحتفلون بها في كل عيد للأم، ويقدمون لها الهدايا من (ملابس وأحذية وعطور) وكانوا يحبون ما تصنع من طعام.
وعندما انتقلت (المشاهد) إلى الموقع الحالي بالقرب من مستشفى (امبريال) كانت لها قصص أخرى مع الصحفيين، فهي (حمراء) الانتماء ومعروف أن (المشاهد) خطها أزرق، الأمر الذي زج بها في العديد من المعارك الشرسة من أجل الدفاع عن فريقها (المريخ)، فيأتيها من هنا “أبو بكر شرش” المصور بـ(المشاهد) مُكايداً، ومن هناك “نادر عطا” و”فضل كودي” مناكفين.
{ المجنون (ود المصارين البيض)
ومن قصصها الجميلة أنها وفي بداية عملها بـ(المشاهد) أراد “عبد المنعم شجرابي” أن يعرفها على “أبو بكر شرش” فبدا لها أول وهلة وكأنه مجنون، ولكن عندما عرفته عن قرب أحبته كثيراً، وكانت دائماً تقول عنه إنه (ابن المصارين البيض). ولها قصة أخرى مع “علي البيتي” سكرتير التحرير بصحيفة (الصدى)، حين طلب منها إحضار (شاي) يكرم به بعض ضيوفه، وإحضار كوب فارغ مع الشاي، وعندما أحضرت طلبات “البيتي” ووضعت الشاي أمام الضيوف، مدت كوب الماء (الفارغ) إلى “البيتي”، واقتسم معها (العصير) الذي أمامه، ووجه كلامه إلى الضيوف، ممازحاً: (هذه المرأة شحادة)، فضحك الضيوف مما بدا على وجهها من تعبير، فضحك “البيتي” واكتشفت أنه يمزح.
{ والجيل الحديث أيضاً
ومن الأجواء الجميلة والمشحونة بالمرح، أنها كانت تصنع الطعام بكل حب حتى أن الرئيس السابق لنادي الهلال وناشر (المشاهد) الأستاذ “صلاح إدريس” يأكل من طعامها، فهو إنسان طيب ومتواضع على حد وصفها، وحاجة “اللازمة” التي عاصرت الجيل الجديد كما القديم، قالت لـ(المجهر) إنها تعرفهم جميعهم، وتعدّهم أبناءها، وأضافت: (أنا أحب “أمين عبد الوهاب” كثيراً منذ أن عرفته وإلى الآن، لقد كان يتفقدني أنا وعائلتي، ومن أبنائي أيضاً “خالد إدريس”، “إبراهيم الصافي”، “هشام تاج السر”، “عاصم وراق” “أيمن كبوشي”، “نادر عطا”، “محمد بلل”، “ميرغني إدريس”، “ميرغني عبد الحي”، “سليمان النعيم”، “عباس الأصم”، “أزهري محمد علي”، الحبيبة “هنادي الصديق” (قدريشنا) والصغيرة “منى ميرغني”، وقالت إنها أكملت الآن (15) سنة وهي تعمل بجريدة (المشاهد).