فرض العين والكفاية في معادلة الحرب والسلام!!
العقليات القانونية في السياسة السودانية هي التي تقف اليوم في المسرح السياسي تشهر سيف القانون، وترفع ألوية الدستور، وتدعو لوضع دستور جديد للبلاد، لتنقسم الساحة السياسية ما بين علمانيين تمترسوا وراء بندقية تقاتل في جبال كادوقلي وصحراء دارفور، وبين إسلاميين في السلطة لا ينظرون للأزمة التي تحيط بالبلاد، بل ينظرون بعين الرضا لكل ما يحدث في الساحة.. ويثير خريجو المدارس القانونية في الحكومة والمعارضة معاً هذه الأيام قضية الدستور الدائم للبلاد، ومع إثارتهم لقضية الدستور يختلفون أشدّ الاختلاف عن كيفية وضع الدستور والآليات التي ينبغي العبور من خلالها لقبة البرلمان.. والمدرسة القانونية في السياسة هي من وضعت حتى اليوم ثمانية نسخ دستورية انتهت جميعها للتبديل والتغيير، وآخر نسخة لدستور السودان هي دستور 2005م، الذي بات الآن على مقربة من التغيير، وإزاء هذا الواقع تتمدّد في الساحة السياسية أزمات وحروبات، وتنقسم البلاد إلى جبهتي دستور، لم يتبقّ لها إلا المبارزة: جبهة دستور علمانية تغطي جسدها بثوب شفيف، ولكنها لا تملك شجاعة الجهر بدعواها للدستور العلماني، وتنوب عنها في الجهر بما في الصدور البندقية، التي ترفعها الفصائل المتمردة.. وكردّة فعل مناوئة لهذا التيار تولّى (منبر السلام) قيادة جبهة ميثاق الدستور الإسلامي، ومشى في ركب المنبر حتى المؤتمر الوطني، غير مبالٍ بتبعات مرافقة رفيق يفيض خطابه بما يقسم ما تبقى من السودان، ولا يجمع إلاّ الذين ارتضوا قيادته وبهذا المسلك الذي تشهده الساحة.
ويضطرب جدول الأولويات ويختلّ الميزان في القضايا الوطنية، وتتداعى أسئلة مهمة تنتظر إجابات الآن، تبدأ بالسؤال: من وضع الدستور أولوية في الوقت الراهن؟! وهل مشكلات البلاد التي أقعدتها عن النهوض منذ الاستقلال هي في غياب الدستور؟! وهل الحروب التي تحصد أرواح مواطني السودان كل يوم هي ثمرة لغياب الدستور والقانون؟! أم القانون والدستور نفسه سبب في حمل بعض أبناء الوطن للسلاح؟! وهل إجماع القوى السياسية شرط واجب لاستقرار الدستور، وكتابة ديمومة له، ولو لبضع سنوات؟! وأسئلة كثيرة أخرى، تتمدد بطول البلاد وعرضها، وقد تبدّى انقسام الصف الوطني في أبشع صورة، ولكن خطوات إقرار الدستور تمضي سراعاً نحو مستقرّها والأوضاع تتدحرج نحو مزيد من الحروب والصراعات.
{ الدستور والترف السياسي
لا يشكل الدستور أولوية في الوقت الراهن والساحة الداخلية تشهد أبشع أنواع الانقسامات والتشرذم، حدّ المفاصلة والاستعداد للمواجهة، أياً كانت تلك المواجهة ونتائجها وآثارها على المواطنين. فالدساتير لا تحقق الاستقرار ولا تتوقّف الحروب بمجرد أن حكومةً ما وضعت دستوراً يصون الحقوق ويجعل المواطنين والحاكمين سواءً لا كبير على القانون، ولا أمير يتمتع بحصانة تجعله فوق المساءلة. والأولية القصوى والأكثر إلحاحاً اليوم هي إيقاف الحرب المدمّرة للاقتصاد، ولوحدة ما تبقى من الوطن، وإنقاذ الشعب من مسغبة الفقر والجوع. ومن المؤسف والمحزن والمثير للتعجب أن كثيراً من القادة والوزراء والمسؤولين لا يشعرون بآلام الشعب التي يعانيها، ويباهون على رؤوس الشعب بأن دستوراً جديداً سيتم إقراره في مقبل الأيام، والشعب لا ينتظر دستوراً ولا يشكل له أولوية في الوقت الراهن، ولا الانتخابات القادمة تمثل قيمة حقيقية لسودانيين أخذوا يهاجرون من بلادهم بالآلاف في هذا العام.. وهي ذات الهجرة التي شهدتها البلاد في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي حينما بلغ عدد السودانيين في مصر وحدها 700 ألف مهاجر.. والآن تقول وزير العمل وتنمية الموارد البشرية: إن (6) آلاف طبيب هاجروا من السودان هذا العام.. ومثلهم هاجر من المهندسين. وحتى قطاع الصحافة والإعلام مع احتضار سوق الصحافة والضغوط التي تواجهها المهنة.. خرج لدول الخليج وحدها مائة صحافي خلال ثلاثة أشهر فقط، ويحزم الآن آخرون أقلامهم بحثاً عن مهنة أخرى في بلاد المهجر.. وأسباب الهجرة للكفاءات والعقول مردّها للأوضاع الاقتصادية والحرب الأهلية والصورة الشائهة لبلادنا وانحدارها لهاوية سحيقة لا يعلم أحدٌ مصيرَها حينما تندلق في جوفها.. ودعوات الحكومة للأحزاب بالمشاركة في وضع الدستور تقابلها المعارضة بالرفض والتمنّع.. بل وتشمّر المعارضة ساعدها للنزال وتطلق الدعوات لإسقاط النظام، الشيء الذي يشجّع الحكومة على المضيّ قدماً في مسلك الإقصاء والتمادي في احتقار المعارضة، حد وصفها بأنّها تقبع تحت أحذية المسؤولين في الحكومة، وإذا كانت المعارضة تقبع تحت أحذية قيادات الحكومة فلماذا دعوها للمشاركة في الدستور؟!
وينظر الشعب السوداني لقضايا الانتخابات والدستور بالترف السياسي، وهي قضايا خاصة بالنخب والمثقّفين، ولكن مشاغل الشعب السوداني في لقمة العيش الكريم، ووقف الحرب التي تخطف أرواح البسطاء والفقراء، ممن لا ناقة لهم ولا جمل في الصراع السياسي (العقيم). وفي الأثر القديم قيل إن وفداً حكومياً من الحزب الاتحادي الديمقراطي أيام شبابه ونضارته وبهائه وألقه طاف على قرى الجزيرة وفي ندوة سياسية بقرية، لا كهرباء فيها، ولا ماء، ولا حتى طاحونة، وتحدث خطيب الحزب “أحمد خير الماحي” و”يحيى الفضلي” عن (مؤتمر باندوق) و(قوى التحرر الأفريقية) ونضال الشعوب التي كانت تحت حكم الاستعمار الغربي المستبدّ، وكيف لعب دوراً في نجاح قمة عدم الانحياز. وقد بهر الأزهري العالم بفصاحته وبلاغته.. وحينما فسح المجال لمتحدث عن القرية قال بلغة من تحدثه حاجته: (سيدي الوزير كل ما قلت عن مؤتمر باندوق وغيرها من القضايا لسنا مختلفين معك حولها.. لكنّنا في حاجة لبئر لتوفير مياه شرب نقية، ومدرسة، وطاحونة، فهتفت جماهير القرية تحيّي المتحدث البطل!!
واليوم تدعو النخب من قادة الحكومة والمعارضة لدستور جديد، ولجان تنعقد وتنفضّ، وانتخابات، تتباهى الحكومة بأنها الوسيلة الوحيدة لتبادل السلطة، ولا يكترت هؤلاء لمأساة المواطنين التي يعيشونها والحرب التي تحصد أرواحهم، والاقتصاد الذي تجاوز فيه التضخم الـ 48%، بعد أن كان 9% فقط، قبل انفصال الجنوب، ويرشح التضخم للزيادة لأكثر من 70% حتى نهاية العام، إذا لم تتوقف الحرب ويتعافى الاقتصاد ولو جزئياً.. فهل يأكل الشعب الذرة والقمح أم نصوص الدساتير والقوانين؟!
{ الحرب إلى أين؟
لا جدالَ إن إيقاف الحرب وتوحيد الجبهة الداخلية يمثل فرض العين مقابل الاهتمام بالدستور والقوانين كفرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين. والذين يعتبرون أنّ صياغة دستور ديمقراطي يحقق المشاركة في السلطة للجميع قمينة لوحدها بدفع حاملي السلاح لوضع الكلاشنكوف والعودة لتأسيس أحزاب تخوض العملية السياسية.. واهمون، وغارقون في الأحلام الوردية.. والذين (ينفخون) في (كير) الحرب ويرفعون اللاءات: لا تفاوض مع عقار، ولا سلام مع عرمان، ولا اعتراف بقطاع الشمال.. ويضعون شروطاً تعجيزية للتفاوض، هؤلاء يدفعون الحكومة للانتحار ولا يشعرون بوطأة الحرب على الشعب، لأنّهم سماسرة حرب، وملاك شركات، وتجار عقارات، ومقاولون ينعمون برهق الشعب، وتتضخم خزائنهم كلّما مات إنسان في بقعة ما في السودان.. والحكومة تصغي لأمثال هؤلاء وتعتبرهم (رجالاً) مخلصين، ودعاة السلام والتفاهم (الرويبضات).. ويأسى المرء كثيراً حينما يركب بعض الذين هم في مراكز صناعة القرار في الدولة (مركب) دعاة الحرب.. مع أن مصلحتهم في السلام أكبر من الحرب وفرص بقائهم في السلطة في ظل الحرب تضيق، بينما تتسع لهم فرص (التقلب) في المواقع والمناصب في ظل السلام والاستقرار!! ودعاة الحرب لا يجرؤ أحدهم على الحديث عن مستقبل البلاد إن أغمضت عينيها عن كل تسوية، وركبت مركب الحرب وامتشقت سيوف القتال.. فإن الحرب حتماً ستطول، ولن يتحقق انتصار نهائي وحاسم على جماعات تمارس حرب العصابات، وتتخذ من أعالي الجبال حصوناً لها، والجيش الوطني إذا نجح في قتل آخر متمرد في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور وبسط سيطرته على كل شبر من الأرض فإن التسوية السياسية ستظل مطلوبة جداً، ودونها لن يتحقق الاستقرار. ومرةً أخرى تنبت أخطاء السياسة متمردين جدداً على الدولة، و”مني أركو مناوي” و”عبد العزيز الحلو” و”عرمان” هم مواطنون متمردون، وتحقيق نصر عسكريّ على المواطنين لا يمثل بطولة.. مهما وجدت هذه الجماعات من الدعم السياسي واللوجستي الأجنبي، ستبقى حركات محدودة القدرات ولا وجه مقارنة بينها وقوات مسلحة وطنية محترفة لها تقاليدها وأثرها القتالي كالقوات المسلحة السودانية، التي تعتبر الجيش الوحيد في العالم الذي ظلّ يقاتل منذ عام 1955 وحتى عام 2013، ولم ينقصم ظهره، ولم يسترِح إلاّ سنوات ما بعد 1972 حينما وقعت اتفاقية أديس أبابا، ولكن الحرب عادت أكثر شراسةً بعد (11) عاماً من ذلك التاريخ، ثم هدنة السنوات الستة الأخيرة لتعود الحرب مجدداً.
والتاريخ يحدثنا أن الحروب حينما تتطاول (تنبت) بذرة الدول المنشقة عن الدولة الأمّ.. وتجربة جنوب السودان تقف شاهد إثبات على ما نقول.. وقد رفض الشمال الفيدرالية، والكونفدرالية، والحكم الذاتي حتى وقعت الواقعة.. والسودانيون لا يتعلمون من الدروس المجانية في تجاربهم.. والذين (غبشوا) وعي العامة بأن الانفصال فيه خير لما تبقى من السودان، وفيه خير للإسلام، أثبتت الأيام أنهم كاذبون، فالحرب في الجنوب الجديد عطلت كل مشروعات التنمية، وجعلت خزانتها خاوية، وضربت وحدة دولة السودان، وفرّ آلاف اللاجئين في أحضان دولة الجنوب والتمادي في رفض الحلول، واليوم يمهد لانشطارات جديدة في ما تبقى من السودان، إذا ما تطاولت الحرب وسدت دروب التسويات.. وانشغلت الساحة السياسية بقضايا وضع دستور دائم، وأهملت القضايا الحقيقية التي تواجه البلاد وتهدد وحدتها بالتمزّق والتشظّي أكثر.