مرض (الضعين) هل يشفي علل (كردفان)؟!
{ منذ شهرين غادر اللواء “محمد فضل الله” والي شرق دارفور البلاد مستشفياً في بلاد أحفاد الرسول “صلى الله عليه وسلم” الأردن، وسط دعوات لإسباغ ثوب العافية على جسد نال من الرهق كمقاتل في القوات المساحة، وأخيراً سياسي تنفيذي دفعت به القيادة السياسية كعلاج لعلل ولاية ولدت مريضة وما تزال على حالها تشكو قلة الزاد والعتاد، ثيابها بالية وأقدامها حافية، وبطنها وخزائنها خاوية.. وإذا كان الحال كذلك، فكيف تحتضن (الضعين) مؤتمراً للمصالحة بين بطون المسيرية (يرهق) الجيوب ويبدد الوقت.. ويجعل نصف مجلس الوزراء يقيم مؤقتاً في حاضرة بادية الرزيقات (الضعين)، التي يتساءل المراقب عن كيف هي حالها وأحوالها في غياب والدها وجفاف ضرع أمها؟! وهل يفلح مؤتمر المصالحة لبطون المسيرية في إقرار السلام؟ وما هي القضايا التي تواجه المؤتمر وما حلها؟!
} (الضعين) تئن وتتوجع
{ إذا كان نصيب (الضعين) الولاية في السلطة الاتحادية وزيراً أُسند إليه ملف الولايات بيد ويمسك بمفاتيح القطاع السياسي في الحزب الحاكم باليد الأخرى “حسبو”، فإن وزيراً آخر خرج من صلب (الضعين) تم إسناد حقيبة الاستثمار له “الصادق”، وكلاهما نائب عن جماهير ولاية شرق دارفور، التي بحساب المشاركة في المركز قد نالت ما تستحقه من المناصب، ولكن لم تنل الولاية والجماهير حقوقهم في التنمية والإعمار، وحتى البنية التحتية التي تؤهل المنطقة لوصفها ولاية!!
خرجت (الضعين) من عباءة جنوب دارفور، ولم تنل من قسمة الأصول إلا بضع سيارات للدستوريين، وقليل من المركبات المعطلة، وآلاف الموظفين بلا مهام وبلا اختصاصات، ولم يجد بعضهم حتى مبنى يأوي إليه، وكرسي يجلس عليه تحت ظلال الأشجار.. وخرجت الولاية من قسمة الأصول مع جنوب دارفور بأصفار كبيرة تمتد من (عديلة) حتى (الضعين).. وآخر مسؤول تنفيذي وضع طوبة في (الضعين) كان د. “عبد الرحمن أحمد الخضر” حينما كان محافظاً لها.. الوالي الآن يقطن في منزل مساعد المحافظ لجنوب دارفور الذي تم تشييده في آخريات حقبة النظام المايوي.. وحينما تفاجأت حكومة شرق دارفور بزيارة د. “نافع علي نافع”، بحثت عن منشآت يفتتحها مساعد الرئيس ولم تجد إلا (شفخانة).. نعم (شفخانة).. تتبع لوزارة الداخلية وليس وزارة الصحة الولائية، فافتتح د. “نافع” (شفخانة) بـ(الضعين)، ووضع حجر أساس لمبنى رئاسة الولاية، حيث يقيم الوالي الآن في مكتب محافظ (الضعين) السابق.. والحكومة قررت بالقانون، ونعني بذلك مشروع الميزانية، (إيقاف) المباني الحكومية!! فكيف السبيل؟! ومن يجيب إذا كان الوالي مريضاً في الخارج شفاه رب العباد؟ والولاية أيضاً مريضة تنتظر العلاج.. والمركز حائر بين الانتظار حتى يكتب الله شفاءً للوالي وبين الإقدام على خطوة شجاعة بإعفاء الوالي وتعيين والٍ يشفي أمراض الولاية.. حيث تلقي أزمة العلاقة مع الجنوب بظلالها على شرق دارفور، وما (14 ميل) إلا أرض للرزيقات ينتفعون من خيراتها.. وفي غرب الولاية يتمدد التمرد الدارفوري لمجموعات “مني أركو مناوي” وحركة العدل والمساواة.. وفي الأجزاء الشرقية من الولاية نزاع مع شمال كردفان حول حقل نفط (الزرقة أم حديدة)، ولو أبصرت الحكومة بعيداً عن مصالحها وأطماعها لأطفأت نيران الخلاف بتخصيص نسبة من عائدات الحقل لكلا الولايتين حتى يتم ترسيم الحدود ولو بعد عشر سنوات!!
وإذا كان حال ولاية شرق دارفور وحاضرتها (الضعين) بكل هذا السوء، فكيف يعقد مؤتمر للمصالحة في المدينة؟! لو كان المؤتمر شأناً حكومياً لعقد في (كادوقلي) أو (الدلنج) بولاية جنوب كردفان، التي تمثل حكومتها وواليها “هارون” (ثقلاً) في ميزان ولايات السودان.. ولكن الأمر، قبلياً وأهلياً، وثقل قبيلة الرزيقات ورمزيتها ورجالها، هو ما رجح كفة عقد المؤتمر في (الضعين) بعد أن فشلت (الأبيض) عاصمة شمال كردفان بكل ما تملك في إبرام مصالحة وتجفيف دم المسيرية الذي سال طويلاً.. ولكن للرزيقات من الحكمة والفطنة والدهاء ما يجعلهم الأكثر تأهيلاً لفض المنازعات، حتى ولو ضعفت حكومتهم ومرضت وهي تفتقد للقائد السياسي والتنفيذي، الذي يبحر بها.
رغبة المسيرية الذين يشعرون بالحرج والأسف والأسى حين (تفلتت) فئة من شبابهم وحصدت أرواح أشقائهم، جعلتهم يتوسلون الحل عند أبناء عمومتهم، وبينهم وأبناء عمومتهم نزاع قديم ودماء أريقت.. ولكن حكمة مؤسسة النظام الأهلي العريقة تكبح جماح النفس الأمارة بالسوء.
} هل الصلح قريب أم بعيد؟!
{ اتجهت إلى مدينة (الضعين) منذ الثلاثاء الماضي وفود قادمة من كردفان (المسيرية الزرق)، وهؤلاء يمثلون أحد طرفي النزاع، و(المسيرية الفلايتة) وهؤلاء يمثلون الطرف الآخر.. وليس كل المسيرية الزرق طرفاً في النزاع ولا الفلايتة كذلك، ولكن (ثلاثة خشوم بيوت) فقط و(خشم البيت) هو فرع من القبيلة.. المتنازعون ثلاثة.. (أولاد هيبان) من المسيرية الزرق، (أولاد سرور)، و(المتانين) من المسيرية الفلايتة، وتعود أسباب النزاع إلى الأرض.. من يملك الأرض؟؟ ومن يحق له الانتفاع من خيراتها الباطنية كتعويضات البترول..(مالك الحاكورة) أم قاطنها؟!
وحتى نضع القارئ الذي تغيب عنه كثير من المصطلحات ويجهل العديد من التسميات، فإن قصة النزاع بين المسيرية (أولاد هيبان) والمسيرية (أولاد سرور) جذورها تمتد إلى ستينيات القرن الماضي حينما نشب نزاع بين بطون المسيرية الزرق وحدهم.. وتم (التفريق) بينهم بترحيل المسيرية (الغزايا) إلى ديار الحوازمة في شرق كردفان وترحيل المسيرية الزرق (أولاد هيبان) إلى حدود كردفان ودارفور.. لكن ناظر المسيرية الفلايتة “سرير الحاج”- رحمة الله عليه- استأذن الناظر “بابو نمر” للإبقاء على (أولاد هيبان) في أرض المسيرية الفلايتة. ولمدة (49) عاماً أو تزيد، ظل (أولاد هيبان) يقطنون المنطقة التي وقعت فيها المنازعات الأخيرة، حيث مثل اكتشاف البترول في المنطقة (مصدر شؤم) على المواطنين والبيئة.. وبعد اكتشاف البترول اتخذت الحكومة المركزية سياسات في التعويضات أدت إلى نشوب النزاعات وإراقة الدماء.. فالوزارة- أي الطاقة- ثم وزارة البترول، اختارت منهجاً في تعويضات الأهالي يتجاوز حكومات الولايات والمحليات، ويتولى موظفو وزارة الطاقة توزيع الأموال كتعويضات للأفراد الذين يقطنون مناطق اكتشاف النفط.. ولا تميل وزارة الطاقة إلى التعويضات الجماعية حتى لا تدفع إلا فتاتاً من المال، وهي لا تكترث كثيراً لسلبيات التعويضات الفردية.. وحينما نثرت وزارة الطاقة جنيهاتها تحت بصر الأهالي الذين يقطنون مناطق إنتاج البترول، بدأت الاحتجاجات من المسيرية الفلايتة باعتبارهم أصحاب الأرض الحقيقيين، والذين تم تعويضهم ما هم إلا سكان جاءت بهم تسويات حدثت في ستينيات القرن الماضي!! وبدأت النزاعات بين الطرفين.. من يحق له أن ينال تعويضات البترول، الذين (يقطنون) الأرض وينتفعون من ثمراتها؟ أم ملاكها تاريخياً؟!
تلك هي العقبة الكؤود التي تواجه المؤتمر، إذا تم حسم النزاع حول ملكية الأرض فإن قضايا (الديات) والتعويض عن الخسائر المادية والبشرية ستخضع لأرث في فض المنازعات يحفظه زعماء القبائل كتقاليد ومواريث!!
وقضية الأرض تمثل مدخلاً للنزاعات في السودان وخارجه.. والسؤال الذي ينتظر الإجابة.. هل تستطيع الحكومة الادعاء بأن كل الأرض لها وما الإنسان إلا مستخلف فيها ينتفع بخيراتها.. والأرض لمن يفلحها؟؟ أم الأرض لله والإنسان لله وكل شيء لله ولا تملك القبائل إلا الانتفاع فقط من خيرات الأرض؟!
إذا كان الأمر كذلك، وملكية الأرض لحكومة السودان، فما الذي يجعل ذات الحكومة تتحدث عن أرض المسيرية وحقوقهم في (أبيي)، وأرض الرزيقات وحقوقهم في (ميل 14)، وأرض الفور وحواكير (بني هلبة) وحواكير (المساليت)؟؟ والأرض التي منحتها السلطات الاستعمارية للقبائل كحواكير حتى قبل منشأ الدولة الوطنية، لا تستطيع الحكومة الآن الادعاء بأن كل الأرض أرضها!!
وقد حاولت الحكومة قبل عامين اقتراح قانون جديد للأرض، وحينما استشعرت خطورة ومآلات القضية تراجعت عنه.. فهل مؤتمر للمصالحة بين بطون قبيلة واحدة في السودان يستطيع حسم مثل هذه القضايا الجدلية العميقة؟!
} ضغوط كثيفة للمصالحة
{ يتعرض المؤتمرون لضغوط كثيفة جداً لإقرار المصالحة ووقف نزيف الدم، فالرزيقات شددوا على لسان ناظرهم “محمود موسى مادبو” في حديثه في فاتحة المؤتمر على قول مأثور للقبائل العربية (أهلك سيادك).. ونحن اليوم أسياد على أهلنا المسيرية، نقرر في مصير نزاعهم ولا يملك المسيرية رفض ما تقرره لجان الوساطة التي تتكون من الرزيقات والمعاليا والبرقد والحوازمة.. وثمة ضغوط سياسية كثيفة من قيادات المسيرية على (أهلهم) لإقرار المصالحة ووقف النزاع، ولهؤلاء حسابات في عودة ولاية غرب كردفان بعد أن (عطلتها) النزاعات الأخيرة.. وكان لافتاً أن قيادات المسيرية السياسيين شكلوا حضوراً في المؤتمر من د. “عيسى بشرى”، و”أحمد الصالح صلوحة”، والفريق “مهدي بابو”، وحاكم (أبيي) “الخير الفهيم المكي”، ود. “حسين حمدي” عضو التفاوض مع متمردي قطاع الشمال، و”حسن صباحي”، و”صافي الدين جلال الدين”، وحتى قيادات المسيرية النسوية مثل “فاطمة عثمان” نائب رئيس المؤتمر الوطني، و”صفاء فضل”، والناشطة في البرلمان القومي “بثينة سعد”.. ولا يُعرف في تاريخ النزاعات القبلية مشاركة النساء، ولكن القضية ذات أبعاد سياسية، حيث يتسابق قادة المسيرية السياسيين لإطفاء حريق شب داخل البيت، حتى لا تتعطل عودة ولاية غرب كردفان، التي أصبحت عودتها رهينة بمصالحة المسيرية مع بعضهم البعض كشرط أول.. كما أن الصراع السياسي في شرق دارفور يبدو حاضراً في مؤتمر (الضعين)، حيث شكل قيادات الولاية حضوراً كثيفاً في المؤتمر من السيد “حسبو محمد عبد الرحمن”، و”الصادق محمد علي”، واللواء “عبد الله علي صافي النور”، والمهندس “عبد الله علي مسار”، والمهندس “عبد الله تكس” وعشرات القيادات المنتظرين صدور قرار بإعفاء الوالي وتعيين قيادة جديدة، لتلتقي في (الضعين) أشواق النظام الأهلي في استقرار القبائل وطيّ صفحات النزاع، وأشواق السياسيين في المواقع وأجندة حكومة جنوب كردفان التي بدت حريصة على إطفاء الحريق.. ومولانا “أحمد هارون” قد شغلته أحداث النزاع بين المسيرية عن عمليات الصيف، الذي قالت الحكومة إنها ستجعله ساخناً على التمرد وتبلغ معاقله في (كاودا)، وقد انصرف “هارون” عن كل ذلك لإطفاء حريق دار المسيرية، وتبدى حرصه على المصالحة بقوله في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر: (نحن مدخرين المسيرية لما هو قادم، ومدخرين الرزيقات لـ14 ميل.. النزاع الداخلي أقعدنا عن الفرائض الكبيرة).
وحتى القيادات العسكرية في جنوب كردفان، ممثلة في اللواء الركن “كمال معروف” قائد الفرقة التاسعة بابنوسة، واللواء “دفع الله الرحيمة” قائد الفرقة (14) كادوقلي، واللواء “مقدم هبيلا” مدير عام قوات الشرطة، والعقيد “صديق محمد أحمد” مدير عام جهاز الأمن والمخابرات، شكلوا وجوداً في مسرح المصالحة والتسوية، رغم الجراحات وتربص التمرد بمدن وطرق الولاية.
ولنا عودة