– “توكل كرمان”: “الترابي” مجدد.. نائب الرئيس الأمريكي الأسبق: أسلمت على يده
– “محمد أبو القاسم حاج حمد”: “الترابي” لا يشكل مدرسة تجديد معاصر على أسس منهجية ومعرفية
– “بابكر كرار”: الترابية آفة الحركة الإسلامية.. “جعفر شيخ إدريس”: (…) هذا ما لمسته في “الترابي”
– (الغارديان) البريطانية: “الترابي” يعتبر الأستاذ الفكري والسياسي لـ”أسامة بن لادن”
الخرطوم ــ نجاة إدريس إسماعيل
قبل أربعة أعوام من الآن.. وفي السابعة مساء من مثل هذا اليوم في الخامس من مارس من العام 2016م .. قطعت الفضائيات السودانية بثها، ونعى الناعي الدكتور “حسن عبد الله الترابي”، الزعيم التاريخي للحركة الإسلامية السودانية الحديثة، وعراب دولة الإنقاذ التي جثمت على صدر الشعب السوداني لمدة ثلاثين عاماً، الذي سقط في مكتبه في صبيحة ذاك اليوم إثر علة قلبية لم تمهله طويلاً بعد بضعة وستين عاماً من العمل السياسي. في هذه الورقة نتتبع لمحات من سيرة الرجل الذي شغل الساحة السياسية، وأثار غباراً لم يزل صداه كثيفاً، ونستقرئ الأقوال التي قالها في حقه محبوه ومعارضوه، وما قالته عنه الصحف الغربية، ثم نعرج للتناقضات التي صاحبت مسيرته السياسية، كما نعرج للكثير المثير الذي تجدونه في ثنايا الورقة.
جذبة جد
وكان جد د.”حسن الترابي”، الشيخ “حمد الترابي” الشهير بـ”النحلان” ــ شايب الصوفية أب سمَّاً فاير” ــ قد ادعى المهدوية – كما ذكر في (طبقات ود ضيف الله) – قائلاً: (ثم لما وصل مكة أيام الحج، قال أنا “المهدي” فضربوه هو وحيرانه، قالت “الحاجة” – يعني جدة الدكتور “الترابي” الكبرى – ساقونا وحبسونا، فأرسل “ميرفا” حواره، وقال أمش في سنار، وقل “المهدي” ظهر، فأمر الملك “بادي أبودقن” بقتله وجره). وقال “ود ضيف الله” عنه: (إنه تكلم بالغيبيات، وبما كان في العالم وما سيكون).
ماذا قال عنه محبوه ومناوئوه؟
ما بين “النحلان” و”الترابي”
يربط د. “غازي صلاح الدين” بين “الترابي” وجده، وذلك في قول الأول (لم يكن ما يملكه الشيخ “حمد” سلاحاً مادياً، كان ما يملكه مزاجاً حديدياً وإرادة عنيدة أهلتاه للانتصار في كل مواجهاته). وأضاف: (يوصف “الترابي” بأنه سياسي، وأحياناً بأنه مفكر، وأحياناً أخرى بأنه داعية، وكل تلك الصفات فيه بدرجات متفاوتة وفي السياق ذاته يقول د.”عبد الله علي إبراهيم” في كتابه (الشريعة والحداثة .. مبحث في جدل الأصل والعصر) يقول: (يكاد الناظر يرى في اهتمام “الترابي” بتجربة جده الكبير بعض أجندته، هو نفسه في تجديد الإسلام، وحيثما يرى رواة سيرة “الترابي” في حركته الدينية انكفاء على هذه التركة السلفية ، لا يجد “الترابي” غضاضة في تفسير تاريخ عائلته بطرق تتفق مع اهتمامه الفريد في إخراج الدين من منعزله لينهض بعبء التغيير الاجتماعي).
بداية
رغم أن “الترابي” أبصر نور الحياة في أرض القاش “كسلا” عام 1932م، إلا أنه ترعرع في مسقط رأسه وموطن أجداده بقرية “ود الترابي” في جو أسري تسوده روح التصوف وعلوم الدين. درس الثانوية في مدرسة حنتوب، ثم انتقل للمرحلة الجامعية، حيث التحق بكلية القانون في جامعة الخرطوم، وتخرج فيها في عام 1955م، ثم انتقل منها ليكمل دراسته فوق الجامعية في جامعة “إكسفورد” ببريطانيا التي حصل على درجة الماجستير فيها، ثم انتقل لجامعة “السوربون” بفرنسا وحصل منها على شهادة الدكتوراة في عام 1964م .
أكاديمي بحت
والمنقب في ملف “الترابي” في “مرحلة الطلاب” يجده منكباً على تلقي العلم، وطبقاً لـ”صديق محيسي” في (حروب الترابي)، فإن “الترابي” (كان طالباً عادياً في جامعة الخرطوم، ولم يلحظ له أي بوادر سياسية أو فكرية، وإنما كان يفضل الانطواء والانكباب على الدروس، قليل الكلام، متخذاً من حذر خفي قاعدة له في التعامل مع الآخرين). ولعل “محيسي” بنى رؤيته تلك وفقاً لرواية زميله القانوني “كرار محيي الدين عووضة” الذي أكد أن “الترابي” لم يكن مهتماً بالسياسة في سنوات الدراسة الجامعية.
أول ظهور
سطع نجم د.”حسن ” قبيل انطلاق الشرارة التي أطاحت بنظام الفريق “إبراهيم عبود” في عام 1964م إثر الندوة السياسية التي نظمها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وقدمها هو، وكانت الندوة مصممة لنقاش قضية الجنوب، وكانت الندوة التي أقيمت في التاسع عشر من أكتوبر من عام 1964م أول ندوة سياسية يتحدث فيها د.”حسن الترابي” ، ورغم كونها الأولى له، إلا أنه كان قد شن فيها هجوماً شديداً على حكومة الجنرال “عبود”.
ما بين الأنداد
يقول د.”جعفر شيخ إدريس” أستاذ الفلسفة بكلية الآداب في جامعة الخرطوم سابقاً، والقيادي التاريخي بالحركة الإسلامية، في مقابلة أجرتها معه صحيفة (البيان) الإماراتية عن د.”الترابي”: (ذهبت و”الترابي” إلى نفس المدرسة “حنتوب الثانوية”، في مطلع خمسينيات القرن الماضي، وكنا نسكن في ذات الداخلية، وكان “الترابي” أمامي في الدراسة بسنتين، ولم يكن معنا في الجامعة آنذاك، وعندما كنت في السنة الأولى بالجامعة سمعنا أنه انضم إلى الجماعة وفرحنا بذلك. ثم عرفته عن قرب وصحبته في الجامعة، لكني بدأت ألمس فيه عيوباً في الفكر والسلوك، والبعض يظن أن دافع نقدي له هو التنافس، ولكني لاحظت عليه ذلك، وأنا مسؤول عن التنظيم، ولم يكن هو آنذاك شيئاً يذكر، وانتقدته وقتها ولم تكن بيننا أي منافسة).
فلتات
وأضاف “شيخ إدريس”: (رغم تحفظاتي التي في قلبي عليه، فقد تعاونت معه بعد أن صار مسؤولاً، وكنت أسمع منه فلتات، فمثلاً في وقت مبكر كان يكره أهل السنة، ويشمئز من ذكر “البخاري” و”ابن كثير” وغيرهما، وليس عنده توقير للصحابة.
إغاظة
ذكر رئيس وزراء السودان الأسبق لدورتين “محمد أحمد محجوب” في كتابه (الديمقراطية في الميزان) أن (د.”الترابي” حاول في البرلمان أن يعمل دائماً على إغاظتي، فلم ينجح، اللهم إلا في إتاحة الفرص لي للسخرية منه ومن “الصادق” لكونهما مبتدئين في السياسة وفي الحياة البرلمانية، في حين قد أصبحت جداً على الصعيد العائلي أو على صعيد الزعامة إذا جاز القول، أو في المناورات البرلمانية).
اختراق
ذكر رجل الأمن والمخابرات الفريق أول شرطة “عبد الوهاب إبراهيم سليمان” وزير الداخلية، ورئيس جهاز الأمن العام في حقبة مايو، في كتابه (أوراق من الذاكرة) أن هناك من ذكر له بأن د.”الترابي” كان يود أن يعرف كيف حصلنا على مذكرته عن الجبهة الوطنية قبل أن يجف مدادها، فقال له: لا جدوى من جهاز أمن لا يخترق التنظيمات المعارضة وفي أعلى مستوياتها.
تضاد
بينما رأت الناشطة اليمنية “توكل كرمان” – الحائزة على جائزة نوبل للسلام – في د.”حسن الترابي” مجدداً تجاوز الأفكار التقليدية، قائلة عنه أنه (يعد من الشخصيات البارزة والعملاقة التي أثرت العمل الإسلامي السياسي والفكري في القرن العشرين.. لقد سعى “الترابي” في كل اجتهاداته ومواقفه ومؤلفاته لمجاراة العصر، وقد جلب له هذا التوجه كثيراً من الانتقادات والهجوم لدرجة تجرؤ البعض على إخراجه من دائرة الإسلام.. اتسمت آراء “الترابي” بالشجاعة والتجديد والإيجابية، ويحسب له أنه كان من الأشخاص الذين مارسوا النقد الذاتي دون تصنع أو تكلف). فيما رأى – خلافاً لرأي “توكل كرمان” – المفكر السوداني “محمد أبوالقاسم حاج حمد” في كتابه (السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل) أن “الترابي” غير مؤهل فكرياً لدور الطموح الفردي الذاتي، فهو – بحسب حاج حمد – لا يشكل مدرسة تجديد معاصر على أسس منهجية ومعرفية، فكتاباته إصلاحية).
“هنتنجتون” يستشهد بالترابي
استشهد الكاتب “صامويل هنتنجتون” في كتابه الداوي “صدام الحضارات ..إعادة صنع النظام العالمي) في سياق حديثه عن الاقتصاد والديموغرافيا وحضارات التحدي وعن الأصولية الإسلامية التي ينظر إليها على أنها الإسلام السياسي – استشهد بالدكتور “حسن الترابي” مستشهداً بقول الأخير عن الصحوة الإسلامية المعاصرة في تجلياتها في شتى شعاب الحياة: (هذه الصحوة شاملة ، إنها ليست عن الصلاح الفردي فقط، ليست فكرية وثقافية فقط، وليست مجرد صحوة سياسية، هي كل ذلك.
طبع وكنس
ولعل كثيرين لا يعلمون أن د.” الترابي” كان قد طبع الأجزاء الأخيرة من مجلدات القوانين عندما كان نائباً عاماً في أعقاب المصالحة الوطنية مع مايو، ثم ما لبث أن شارك في كنسها، بعد أن أقنع الرئيس الأسبق “جعفر نميري” بذلك – بحسب د.”منصور خالد” في كتابه (الفجر الكاذب) – شارحاً الأمر: (تعثر طبع الأجزاء الأخيرة من مجلدات القوانين نسبة لمشاكل الطباعة في دار النشر بجامعة الخرطوم التي قامت بطبع المجلدات الخمسة الأولى، وأراد القدر الساخر أن تتم طباعة ما تبقى من مجلدات، دون أن تمسها يد التغيير، على يد النائب العام د.”حسن الترابي”، وتم ذلك الطبع في بريطانيا في مطابع “مودي حكيم” لقاء مبلغ ثمانين ألف جنيه إسترليني، وشملت المجلدات المجلد السادس إلى الحادي عشر التي تضمنت في ما تضمنت قانون العقوبات، قانون الإجراءات الجنائية، قانون البيع، قانون الوكالة، ولا نخال الدكتور “الترابي”، وقد سارع بالتعجيل بصدور هذه القوانين كان يظن أن فيها ما يتعارض مع شريعة الله، وإلا فما كان ليمهرها بتوقيعه أو يكلف الخزينة التي أبهظتها الديون بسداد فاتورة طبعها لتلغى بعد بضعة أعوام
بعد عالمي
للدكتور “الترابي”- صاحب رسالة الدكتوراة (حالة الطوارئ في الفقه الدستوري) من جامعة “السوربون” بفرنسا – علاقات واسعة بدول العالم الأول وصداقات ندية مع مفكرين وكتّاب غربيين، ومن أعمق الحوارات التي أجريت مع د.”الترابي” حواره مع الصحفي المستشرق الفرنسي “ألان شفالرياس” عام 1994م في مكتب د.”الترابي” في شارع البلدية بالخرطوم عندما كان أميناً عاماً للمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي وترجمه من الفرنسية للعربية السفير “يوسف سعيد”، حيث حاور “شفالرياس” “الترابي” عن عدة قضايا فكرية وسياسية واجتماعية منها صدام الحضارات والأسرة والعلاقات بين الجنسين ومسألة الحجاب والعولمة والعلاقات الدولية، وفي مجلة (الشقائق) الإماراتية – العدد (77)، يناير 2004، أن نائب الرئيس الأمريكي “نيكسون” للأمن القومي في البيت الأبيض 1963م، ثم مستشاره للشؤون الخارجية حتى 1969م الدكتور “روبرت كرين” “فاروق عبد الحق” أسلم في خريف 1980 على يد د.”حسن الترابي”، حيث التقيا في أحد المؤتمرات، وكان د.”الترابي” يشرح فكرة الإسلام، قال “روبرت كرين” – في شهادته عن “الترابي” – فأدركت أنه متقدم في أفكاره ثم رأيته وهو يصلي ويسجد، وكنت ضد مسألة السجود، لأن الإنسان في نظري يجب ألا يسجد لأحد، ففي هذا إهانة له ولإنسانيته، ولكني أدركت أن د.”الترابي” لم يكن يسجد لأحد، وإنما يسجد لله، وقلت في نفسي إذا كان “حسن الترابي” ينحني لله، ويسجد له، فالأولى أن أنحني وأسجد أيضاً. وهكذا فعلت ودخلت الإسلام من يومها على يد د.”الترابي” .
سيرة الفشل
ومن بلاد التاميز – في بلاد تموت من البرد حيتانها – زعمت (الغارديان) البريطانية أن “الترابي” يعتبر الأستاذ الفكري والسياسي لأسامة بن لادن، بينما وصف الكاتبان الدكتور “مليلارد بر” أستاذ العلوم السياسية بجامعة “أريزونا”، والدكتور “روبرت كولنز” أستاذ العلوم السياسية بكلية “سانت باربرا” في كتاب (السودان الثوري.. “حسن الترابي” ودولة الإسلاميين)، تجربة د.”الترابي” الفكرية بأنها تقف في النقطة الفاصلة بين الإسلام العلماني والإسلام الأرثوذكسي المحافظ،. وقد تصدى الكاتب الدبلوماسي “خالد موسى دفع الله” لمزاعم (الغارديان).
برغماتي
في كتابه (الإخوان والعسكر.. قصة الجبهة الإسلامية والسلطة في السودان) سمَّى الكاتب “حيدر طه” مدرسة “الترابي” بالبرغماتية في التنظيم، والميكافيلية في السياسة. ويرى “طه” أن المدرسة البرغماتية في التنظيم والميكافيلية في السياسة عند “الترابي” نجحت في توظيف الظروف السياسية المعقدة والمتشابكة بعد ثورة أكتوبر 1964 في استصدار قرار من الجمعية التأسيسية بحل الحزب الشيوعي السوداني الذي استطاع أن يكتسب مواقع جديدة وتأييد دوائر الخريجين في الانتخابات في البرلمان بأحد عشر مقعداً في البرلمان، مما منحه صوتاً عالياً في الحياة السياسية السودانية. وينسب الكاتب إلى المفكر الإسلامي الاشتراكي “بابكر كرار” قوله عن الظاهرة الترابية (الترابية آفة الحركة الإسلامية، بحكم أن لكل شيء آفة من جنسه). ويقال إن “بابكر كرار” هو الذي ظل يتابع نمو “الترابي” فكرياً وسياسياً منذ أن كان طالباً في حنتوب الثانوية، وربما هاله ما وصل إليه قائد الإخوان في تلك المرحلة .
لكي لا ننسى
وفي ديوانه (نحن والردى) خط تحت عنوان “لكي لا ننسى” الشاعر “صلاح أحمد إبراهيم” أسطراً تحّمل “الترابي” مسؤولية قتل “محمود محمد طه” رئيس الحزب الجمهوري، قائلاً:(الدكتور “الترابي”، مسؤول قبل سواه ، وبأكثر من سواه، عن دم رجل كل جريرته أنه جرؤ على التفكير والاجتهاد والقول – أصاب أم أخطأ – بمحاكمة تستنكف عن قصرها وتلفيقها العدالة الوضعية، ناهيك عن عدالة الإسلام، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب) ..
من المحررة
ورغم الجدل الكثيف حول الرجل في الدين والسياسة والفكر.. حباً وبغضاً، حياً وميتاً، لم ينطفئ الجدل حتى بعد رحيله، ورغم ذلك، فلا يزال هناك من يردد مقاطع مما نظم الشاعر “إمام علي الشيخ” في أنشودته الشهيرة (فتى أخلاقه مثل) من ديوانه (الليل الأبيض):
عتي في عواصفها
وهل يتزلزل الجبلُ
قوي في زوابعها
فليس يهزه جللُ
فتيّ في مواقعها
وطوع حسامه الأجلُ
وإن دارت معاركها
فلن يتقهقر البطلُ