آخر سنوات “البشير” (11)
في ساعة متأخرة من ليل يوم 28 يونيو 2011م ، وصلني نص اتفاق (نافع – عقار) الإطاري باللغة الإنجليزية، كنتُ في مكتبي بصحيفة (الأهرام اليوم) التي أسستُها نهاية عام 2009م وعملتُ بها رئيساً للتحرير لنحو ثلاث سنوات، كُنا على وشك إرسال عدد اليوم التالي إلى المطبعة ، فقد اكتملت الصفحة الأولى وأرسلتُ عمودي إلى الصفحة الأخيرة . اجتهدتُ في ترجمة الاتفاق ، وهالني أنه اتفاق كبير وخطير ولم تصل تفاصيله إلى معظم صحف الخرطوم ، فصدرت (الانتباهة) المهتمة بأخبار الحركة الشعبية وقد نشرته صغيراً في الصفحة الثانية تحت عنوان (اتفاق أمني بين الحكومة وقطاع الشمال حول منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق)!!
صغتُ من نص الاتفاق خبراً للصفحة الأولى بعد أن عدلتُها، وجعلته (مين شيت) العدد :(نافع وعقار يوقعان “نيفاشا 2”) . ثم كتبتُ مقالاً جديداً أطلقتُ فيه ذخيرةً كثيفةً على الاتفاق، وحرضتُ الرئيسَ “البشير” وأعضاءَ المكتب القيادي على رفضه جملةً وتفصيلاً .
كان الرئيسُ السابقُ في رحلة إلى “الصين” ، فصادفت عودته صباح يوم (الجمعة) ، استقبله في المطار نائب الرئيس وعدد من الوزراء أبرزهم وزير الدفاع الفريق “عبد الرحيم محمد حسين”. رافق “عبدالرحيم” الرئيس إلى مقر إقامته في بيت الضيافة بالقيادة العامة للجيش، وقد أبلغه برفض واسع وسط قادة القوات المسلحة للاتفاق ، ذات الموقف اتخذته غالبية عضوية المكتب القيادي للمؤتمر الوطني. من بيت الضيافة توجه الرئيس بصحبة وزير الدفاع إلى مسجد النور بـ”كافوري” حيث أدى صلاة (الجمعة) ، وعقب الصلاة خاطب المصلين معلناً ما نقله تلفزيون السودان على الهواء مباشرةً رفضه للاتفاق الإطاري الذي وقعه مساعده “نافع” في “أديس أبابا” مع رئيس الحركة الشعبية- شمال “مالك عقار” .
عندما عاد دكتور “نافع” إلى الخرطوم وجد (الدنيا مقلوبة) ، ولم تكن الأوضاع في الحزب و(القصر) كما تركها ، أو كما يحب ويشتهي ، كان المشهدُ قريباً من عودة “علي عثمان” من “نيفاشا” ، مع فارق أن “علي” غاب عامين ، بينما غاب “نافع” أسبوعين!!
وخلافاً لما كان يظن كثيرون ، لم يُعنى الاتفاق الإطاري بترتيبات أمنية خاصة بجبال النوبة والنيل الأزرق، بل كان يتحدث في صدره عن (شراكة سياسية) بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية – قطاع الشمال ، على نمط (نيفاشا) في ما يتعلق بقسمة السلطة والثروة وتوزيع المناصب في حكومتي ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ، ولهذا أسميتُه (نيفاشا 2) في عنوان عريض هز الخرطوم صبيحة التاسع والعشرين من يونيو عام 2011م .
وصل وفد قطاع الشمال بقيادة “ياسر عرمان” إلى الخرطوم، وسارع كعادته إلى الإعلام في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من روح الاتفاق الذي دخل غرفة الإنعاش !! عقد “عرمان” مؤتمراً صحفياً محضوراً دافع فيه عن الاتفاق الإطاري بقوة، وقال فيما قال :(وقعنا هذا الاتفاق مع قيادة المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، والحركة الإسلامية التي نعرفها يمثلها “سيد الخطيب” ولا يمثلها “الهندي عزالدين”)!! وقد رددتُ عليه في مقال بأنني لا أمثل الحركة الإسلامية ولكنني أزعم أنني أمثل نبض الشارع السوداني الذي لا يمكنه أن يكرر الخطأ مرتين ويُلدغ من ذات الجحر مرتين ، ويكفي أن جنوب السودان قد مضى من بين أيدينا إلى المجهول بفعل ممارسات الحركة الشعبية ، خاصةً قطاع الشمال .
كانت مجموعةُ حول “نافع” صورت له من وحي خيالها وأوهامها أنني هاجمتُ الاتفاق وقدت ضده حرباً شعواء ، بإملاء من نائب الرئيس “علي عثمان محمد طه” !!، وإنني أشهد الله أن “علي عثمان” لم يحدث طوال معرفتي به أن وجهني بالكتابة مع أو ضد “زيد” أو “عبيد”، كما أنني قد لا أقابله لنحو عامين، وقد كان حذراً وحريصاً على عدم ربط مواقفه بكاتب أو صحيفة محددة، ورغم ذلك فإنني قابلته في العام الأخير قبل ثورة ديسمبر (ثلاث مرات) ، مرتين بطلب منه ، ومرة بمبادرة مني قبيل الإطاحة بالنظام بشهرين فقط، وكانت المظاهرات مشتعلة في مطلع فبراير 2019م ، ناشدته فيها بحضور الزميل “يوسف عبدالمنان” ، أن يتحركوا في قيادة المؤتمر الوطني قبل فوات الأوان لإعلان موقف سياسي واضح يؤكد عدم ترشح “البشير” لدورة انتخابية قادمة في العام 2020م، وتشكيل حكومة قومية . في المرتين الأوليين كان شيخ “علي” يحاول أن يوصل فكرة واحدة ظل يرددها في مجالسه الخاصة ، مفادها أن السودان في ظل ظروفه السياسية والاقتصادية بالغة التعقيد لا يتيسر حكمه إلاّ في ظل شراكة سياسية مع قيادة عسكرية . وأظن أن ما حدث بعد ثورة ديسمبر يؤكد ما ذهب إليه نائب الرئيس السابق.
نواصل غداً