ربع مقال

ألف لا للأسعار التجارية للسلع !!

د. خالد حسن لقمان

لا زلت أذكر نفسي أولاً وبعضاً ممن حولي بمبادئ أقف عليها، ولا أرغب مطلقاً في التزحزح عنها، مهما كانت المبررات، ومهما كانت الألوان و(الميكياج) الذي يخدع البعض من ضعاف النفوس وقليلي الإيمان وأولئك المتطلعين والمتهافتين لمتاع الدنيا الزائل من مناصب وأموال، وكل ما يرتبط بزهوها وبريقها.. وما قيمة الانسان أصلاً إن فصم نفسه عن القيم العليا، ورهن نفسه لأهواء نفسه فانزلق إلى حضيض الفعل وسوء السلوك.. حتى هذه الكلمات التي نقولها هنا يحسبها بعض من أولئك أنها كلمات قديمة منتهية الصلاحية، ولا يسعى لامتلاكها وشرائها، إلا من كان ساذجاً أو مغفلاً، وهذا هو تحديداً الشيء الذي يفصل بين من يرى الحق ومن يغفل أو يتغافل عنه، وكلاهما سواء من يغفل جاهل، ومن يتغافل أكثر منه جهلاً، ولا قيمة للإنسان مطلقاً إن وقف محايداً بين هؤلاء وهؤلاء، لأنه حينها ينزلق أكثر إلى رتبة شيطان أخرس.. أخرس نفسه عن قول الحق، وأصم الآخرين عن سماعه، والعمل به.. أقول هذا ومنطق البعض يحاول أن يهزم الحقيقة في أنفسهم بأن طبيعة الحياة وشأنها الآن يقتضي أن نعترف بفوارق القدرة والتمييز بين أفراد المجتمع في طلب حاجيات الدنيا والتمتع بها وبمباهجها كلاً وفق قدرته، وما وفقه الله إليه من رزق، وهي حقيقة يراد بها باطل عندما تستلف في غير مكانها وغير موضعها.. ومن هذا ما شرعت في فعله الآن هذه الحكومة بإقرارها البيع التجاري للمحروقات والخبز، في وقت ندرة وغلاء وشظف عيش لم يسلم منه أحد، بل وفي حضرة شعارات مرفوعة تنادي بالعدل والحرية والسلام.. ماذا يريد أن يفعل بِنَا رئيس الوزراء ووزير ماليته ووزيره للتجارة والصناعة بإقرار هذا الأمر؟ .. هل يريدون أن يوجدوا مجتمعاً منقسماً لطبقتين إحداهما قادرة والأخرى فقيرة؟.. إذن ماذا نسمي أن ينتظم على مخبز واحد صفان أحدهما لبيع الخبز التجاري (سعر الرغيفة (7) جنيهات)، والآخر لبيع الخبز العادي (سعر الرغيفة (1) جنيه).. عندها يصبح المشهد غريباً، فالصف التجاري عليه بضعة أشخاص (منورين ومنفوخين) ينزلون من سياراتهم ليقف الواحد منهم دقيقتين فقط أو أقل ثم يأخذ خبزه المنتفخ كصاحبه، ويرمي به في سيارته، وينطلق تاركاً خلفه صف بقية خلق الله (الكالحين المغبرين) يتعاركون في ما بينهم في صف طويل يقف ساعتين، ويتحرك عشر دقائق فقط، ليقف مرة أخرى ساعتين تبعاً لحركة عمال الفرن، ورغبة وأهواء صاحبه.. ونفس المشهد بدأ الآن على طلمبات الوقود.. محطة وقود توزع البنزين بسعره العادي للجالون، الذي لا يتجاوز (28) جنيهاً فقط وعلى مداخلها صفوف العالمين الذين منهم من قضى ليله بكامله عندها، وطلمبة أخرى تجاورها أمامها فقط أربع أو خمس سيارات يشتري أصحابها الجالون بسعر (126) جنيهاً؟.
آخر صورة: إحدى بنات الداخليات جاءت بالأمس لتستطلع الأمر في مخبز، فوجدته يبيع الخبز التجاري فقط .. في يدها أمسكت بعشرين جنيهاً رأيتها بأم عيني.. ترددت كثيراً ثم حزمت أمرها، ومدت يدها النحيلة طالبة فقط (رغيفتين) بسعر (14) جنيه .. تبقى لها فقط (6) جنيهات .. كنت أرقبها بشغف لأرى ما ستفعل، وهي التي أعلمتني بأنها طالبة داخلية، عندما ارتبكت وهي تسألني عن حجم الرغيفة هل هي بالفعل كبيرة أم صغيرة، فقلت لها مثل هذه وأشرت لأحدهم يحمل منها على كيس بلاستك فكانت كلماتها لي: (ما مشكلة نحن أصلاً تلاتة بنات بس في الداخلية).. تابعتها تحمل رغيفتيها بيدها بينما يدها الأخرى كانت تحتضن بها الـ(6) جنيهات المتبقية.. ترى ماذا كانت تريد أن تشتري هذه الفتاة ببقية العشرين جنيهاً لفطورها ووزميلتيها إذا وجدت السعر العادي للخبز وابتاعت فقط (6) رغيفات؟.. سألت نفسي ثم نظرت فوجدت عدداً من الطالبات الأخريات يشترين طعمية (من بائع جوار المخبز)، وذلك مع صرة صغيرة من الشطة بالدكوة، فعلمت أن فتاتي قد ذهبت بلا طعمية لأن سعر الطعمية الواحدة ــ (صغيرة الحجم على نحو ملحوظ) ــ (جنيه واحد)، تماماً مثل سعر الخبز العادي .. إذن فقد ذهبت الفتاة لزميلتيها لتفاكرهما عن ما سيكون فطورهم اليوم بهاتين الرغيفتين والستة جنيهات المتبقية. صدقوني دمعت عيناي وأنا أرقبها حتى اختفت ولم أجرؤ قط على جرح كرامتها بعرض أي مساعدة.. فقط تركتها، وأنا ألعن كل من في هذا البلد من حكام ومسئولين..
– اللهم إنا نسألك أن تنتقم لنا من كل نخبنا السياسية التي أذلتنا طوال تاريخ هذا البلد، وجعلتنا نتسول الآن ماجنات المدن، وتافهات الدويلات، وأنصاف الرجال وشواذهم.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية