رأي

(الرحيل الحزين)


التجاني حاج موسى


قبيلة الإبداع، تتناقص كل يوم لاسيما الذين تقدموا في العمر، وهذا يعد خصماً على الإبداع السوداني. بالأمس القريب رحل فنان عظيم / يرحمه الله / بعد معاناة لزم فيها سرير المرض لشهور عديدة.. وفي السنوات الأخيرة كان الرحيل لعدد من رموز الثقافة سريعاً، يقيننا هذا أمر الله.. ولكل أجل كتاب.. والأجل المحتوم يأتي بمشيئة الله.. لكن المحزن حقاً أن رحيل المبدع في وطننا الحبيب مصحوب بمأساة، إذ أن المبدع حينما يداهمه المرض يكون في معظم الأحوال فقيراً معدماً، برغم عطائه الإبداعي المتميز الذي سكب فيه عصارة موهبته وإبداعه، وبان أثر إبداعه على كل المجتمع. لكن للأسف نجد أن الدولة وبالتحديد وزارة الثقافة في وطننا فشلت في إعطائه معاشاً أو تأميناً صحياً برغم مناشدة الصحافة و الإعلام بضرورة تخصيص معاش أو تأمين صحي للمبدع ويترك الأمر لبعض الخيرين الذين يتعاطفون مع المبدع ويساندونه في محنته ومرضه.
أكتب هذا المقال وفي ذهني عشرات من المبدعين عانوا الفاقة والقهر والذلة ورحلوا للدار الباقية مخلفين موروثاتهم الفنية مدى الحياة.. وهنا نعود بالذاكرة إلى الوراء وأنا شاهد لصيق لمعاناة ورحيل بعض المبدعين على النحو الذي ذكرته. من منا لا يعرف الفنانة العظيمة – لها الرحمة “عائشة الفلاتية” أو المطربة “منى الخير” – فقد عانتا من عدم العناية الطبية، فالأولى كانت نزيلة عنبر عام بمستشفى أم درمان التعليمي بسبب مرض السكر الذي تسبب في بتر يدها. والثانية فارقت الحياة في عنبر عام من عنابر مستشفى الخرطوم التعليمي.. والمستشفيان لسخرية الأقدار أسسهما المستعمر.. أيضاً أذكر رحيل الشاعرين المجيدين “محمد بشير عتيق” و”عبدالرحمن الريح” الشاعر الملحن في مستشفى السلاح الطبي /يرحمهما الله / وقد تركا إرثاً إبداعياً متميزاً تنهل منه الأجيال من المغنين والمغنيات دون منحهما حقاً مادياً أو أدبياً ولم ينعم ورثتهما بحقوقهما المادية المكفولة لهما في القانون. وأذكر العندليب الأسمر “زيدان إبراهيم” الذي فاضت روحه في مستشفى “المروة” بالقاهرة وكنت مرافقاً له وعلى علم بالكيفية التي تم بها جمع نفقات علاجه والقائمة تطول من الذين أعطوا إبداعهم ولم تعطهم الدولة سوى مساحة للنعي عن وفاتهم في الإذاعة والتلفزيون.. يعصرني الحزن لأني من ضمن هذه القبيلة التي تعطي ولا تأخذ، وما يخيفني هو أنني سوف أشرب من ذلك الشراب المُر ولو بعد حين.. والغريب في الأمر أن هناك صندوقاً لدعم المبدعين قد أنشأته الحكومة السابقة، لكن للأسف الشديد لم يقدم هذا الصندوق إلا القليل جداً من دعم لا يتعدى قيمة نظارة النظر أو منحة لا تتجاوز ألف جنيه في حالات نادرة كالأعياد مثلاً ولا ينعم بها إلا من يتردد على ذلك الصندوق. الآن هناك أخي وصديقي وزميلي الشاعر الكبير الأستاذ “عبدالقادر الكتيابي” الأمين العام لصندوق رعاية المبدعين بوزارة الثقافة والذي هو على علم بكافة التفاصيل المتعلقة بأحوال وظروف مبدعي بلادي، أقول له أرجو من العلي القدير أن يمكنك من جعل هذا الصندوق فاعلاً لمقابلة احتياجات المبدعين الذين تداهمهم الشيخوخة أو المرض.. أجلس مع أخي الأستاذ “فيصل محمد صالح” وزير الثقافة والإعلام ثم قدما مرافعتكما لإيجاد واستقطاب الدعم المالي لهذا الصندوق، أرفعا مشروع قانون جديد لمعاش مبدعي بلادي لأن المبدع شخص استثنائي نادر الوجود في هذه الحياة وعطاؤه لا يقدر بثمن.. والإبداع الأصيل يظل باقياً ما بقيت الحياة.. تنهل منه الأجيال المتعاقبة يثريها ويجمل وجدانها ويزينها بقيم الخير والجمال المطلق تثقيفاً وترويحاً وتعليماً وإرشاداً.
يرحمك الله “عبدالعزيز المبارك” نجم الغناء الذي شغل كل محب للغناء الجميل الأصيل.. لازلت أذكر دعوتكما أنت وأخي الفنان الأستاذ د. “عبد القادر سالم” حينما استلمت دعوة من سفارتنا باليابان لإقامة حفل غنائي هناك وأيضاً دعوتكما لحفل ببريطانيا وعدد من العواصم العربية والأفريقية تحملون سفارة الإبداع السوداني الغنائي الأصيل.. لك الرحمة والمغفرة ياعزيزنا ويجعل الله البركة في التومات ابنتيك.. وأقول لكل من أحب الراحل أدعو له بالرحمة. ولاتحاد الفنانين كونوا عوناً للتومات.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية