فنجان الصباح..
في جريدة الأضواء عام 1988م، وفي رمضان ساخن من رمضانات الثمانينيات، دخل علينا في صالة التحرير أستاذنا الراحل “محمد الحسن أحمد” صاحب الأضواء ورئيس تحريرها، ومعه الأستاذ الراحل “محمد عمر الخضر” رئيس القسم اﻻقتصادي، والمترجم الخطير بالصحيفة.. كانا يصطحبان شيخاً طاعناً في السن، تبدو عليه آثار النعمة، وشلوخ شوايقة عريضة.. وقال لنا استمعوا جيداً للشوايقة الأصليين.. وحاوروا الرجل للعدد الأسبوعي القادم.
وشرع الرجل يتحدث.. أنا شايقي نعم.. لكن من كبوشية.. من قلعة الشوايقة.. توفي والدي وأنا دون العاشرة.. وأنا ابنه البكر تاركاً لي إخوة أيتاماً.. ولذلك لم أحظَ بفرصة دخول لخلوة وﻻ مدرسة.. كان علي أن أعمل لأعول أسرة مات كافلها.. ولما بلغت الرابعة عشرة من العمر سافرت للخرطوم..كان ذلك قبل الحرب العالمية الأولى.. ووجدت فرصة للتجنيد كصبي في البوليس ريثما أبلغ مبلغ الرجال.. كان مركز التدريب في مكان السلاح الطبي حالياً.. وسمعت بفصل لمحو الأمية فانتميت له، وتدرجت من أولى إلى ثانية حتى الفصل الرابع.. وأجدت القراءة والكتابة، ثم استوعبوني كشرطي له قلم ومكتب.. وسرعان ما تمت ترقيتي لوكيل أمباشي أي (وكيل عريف)، ونقلوني لمدني.. وهنالك تزوجت وصارت لي أسرة ثانية.. ثم بدا لهم أن ينقلوني لمركز رفاعة.. ونلت ترقية لـ(أمباشي) وكانت رتبة رفيعة ومهابة، وسكنت بقرب المركز وفي ذات صباح كنت قد أكملت وضوئي لصلاة الفجر، حينما طرق الباب بعنف أحد عساكري وصرخ (يا حضرة الأمباشي.. العسكري فلان أصابته لوثة مفاجئة.. وهو الآن يحتجز مجموعة من زملائه.. وتوعدهم بالقتل.. فتعال سريعاً عله يراك فيخاف أو عساك تقنعه فيضع السلاح ويخلي سبيل الرهائن.. وانطلقت مسرعاً بالعراقي البلدي.. فلما رآني ابتسم ابتسامة جنون وهددني بإطلاق النار.. قلت له أفعل ما بدا لك.. فإذا قتلتني (الله أداك) وإن أخطأتني الرصاصة فان الضحك (سيشرطك) وفعلاً أطلق رصاصة واحدة من بندقيته القديمة.. والتي كانت تحتاج للتعبئة مع كل رصاصة، وقد أخطأتني، وفي قفزة واحدة كنت قد قبضت عليه بيد وعلى بندقيته باليد الأخرى.. وقيدته وأمرت به فالقي في الحبس.. وحانت مني التفاتة فإذا بمدير المركز الإنجليزي وقد ذرفت عيناه الدموع تأثراً.. وعاد لمكتبه فكتب من توه خطاب إشادة إلى الخرطوم.. تلقى الحاكم العام (سير ونجيت باشا) نسخة منه.. وهو بدوره بعث بخطاب مماثل إلى المسؤول عن المستعمرات، بنسخة إلى صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا العظمى.. وبعد أيام منحني قصر (باكنجهام) وسام الشجاعة.. وهو وسام فضلاً عن له راتبه الشهري.. فإنه يتيح لحامله حضور (عيد الجلوس) في لندن كل عام.. وهذه هي السنة الوحيدة التي لم استطع فيها السفر لعامل السن والمرض.
ومع “الحاردلو” الشاعر والسفير نردد (أيها الإنجليز ﻻ تفوتوا وﻻ تموتوا).