رأي

فنجان الصباح

أحمد عبد الوهاب

في رحيل نسر السودان كابتن “شيخ الدين”

لما علم بوجودي ضمن ركاب الطائرة المتجهة من عمان للخرطوم، عام 1998م أرسل إلي يدعوني لأكون ضيفاً عليه في قمرة قيادة طائرة الأيرباص (320).. وسط عدد كبير من الأجهزة والعدادات في لوحة ضخمة في سقف الكابينة، وأمامه وعن جانبيه تومض أجهزة ملاحة معقدة، رحب بي متخففاً من حزامه المشدود إلى مقعد الطيار.. ومع الطيار المفخرة كابتن “شيخ الدين محمد عبد الله” قضيت ساعة ممتعة فوق السحاب، ما زلت احتفظ بصورة فوتوغرافية معه إلى الآن.. وكان قد استضاف أيضاً شاعرنا الدبلوماسي “محمد المكي إبراهيم” وقد أورد تفاصيل لحظات تحليق (سودانير) فوق جبال الألب و”شيخ الدين” يطلب إليه أن يمعن النظر في جبل شهير، تكتسي هامته بالثلوج شتاء، وتنزعها صيفاً، وقال إن الأستاذ “محمد أحمد محجوب” رئيس الوزراء، وشاعر السودان العظيم، قد أهدى لهذا الجبل نفسه أبياتاً رائعة.. يقول في أحدها (ليت شيبي مثل شيبك موسمي).
أدخل كابتن “شيخ الدين” لصناعة الطيران (دعاء السفر) الذي علمنا له نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم).. نسأل الله تعالى أن يكون له صدقة جارية.. فالدال على الخير كفاعله.. كان “شيخ الدين” يحبب الطيران، ويخفف عن الركاب وعثاء الطريق، ورهاب السفر جواً.. ولم يكن مجرد ملاح ماهر، كان داعية في زي ملاح، وكان يتلو ما تيسر له من آيات من الذكر الحكيم.. مما حبب فيه الرئيس “النميري” له الرحمة.. وجعله يقود الطائرة الرئاسية في رحلاته الطويلة.. كان “شيخ الدين” دليلاً سياحياً.. يعرف بالسودان مدنه، ومعالمه، وآثاره، ومناطق الجذب السياحي فيه.. بداية من شلال السبلوقة.. كمثال، مروراً بنهر عطبرة، ومنحنى النيل عند أبو حمد، حتى تحلق طائرته فوق حلفا.. أجمل مدينة سودانية.. ثم يشرع يتحدث عن مصر (المؤمنة) هذه مدن الغردقة، وشرم الشيخ وغيرها.. ثم يطلع الركاب على خليج العقبة.. هذا ميناء العقبة الأردني على اليمين، وهذا ميناء ايلات الإسرائيلي على اليسار.. وفي العام 1997م كان مسافراً عادياً معنا، في رحلة خاصة إلى بانقي.. وكان رحمه الله واقفاً طوال الرحلة، يتحدث لبعض أصدقائه.. رحلة وصفها الصحفي الساخر “زكريا حامد” بأن “شيخ الدين” قد قطع من (الخرطوم لبانقي) المسافة (كداري).
في سبيل وطنه كان يضحي بروحه وراحته، وقد كان أول من حلق في سماء (جوبا)، أيام حصارها أول التسعينيات.. مفترعاً طريقة مبتكرة، تتمثل في الهبوط والإقلاع، بشكل لولبي في محيط دائرة الأمان.
وفي العام 2000م زارني بكامل زيه الرسمي، بمكتبي بـ(ألوان) ووضع أمامي رزمة من صحف القاهرة، الصادرة في ذات اليوم، وقال لي إنه رغم بلوغه الستين من العمر، ولكن قانون الطيران يعطيه الحق في العمل كطيار، أربع سنوات أخرى.
وفي موسم حج عام 2000م تزاملنا.. وفي منى، كان ريحانة المخيم.. عليه وضاءة ورضا.. رغم شبح (اﻻنفصال) وكارثة (المفاصلة).. انشغل فقيدنا بعدة نشاطات اجتماعية ورياضية.. إﻻ أن صحته كانت تتدهور.. حرموه من التحليق جسداً.. فحلقت روحه الطاهرة، مسافرة إلى أكرم جوار.. رحم الله نسر السودان العظيم، وابن ديم القراي، عاشق الإسلام والسودان كابتن “شيخ الدين”.. وتقبله في الصالحين.. وإنّا لفراقه لمحزونون.. وﻻ نقول إﻻ ما يرضي ربنا.. (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية