تقارير

قمة الاتحاد الأفريقي.. ظُلمات فوقها ظُلمات

كثيرون يؤمنون أن أحلام المناضل الأفريقي العالمي “نيلسون مانديلا” بتحقيق (وحدة أفريقيا)، قد ذرتها الرياح، وبددتها أعاصيرها دكتاتوريات القارة السمراء، وطمرها جشع حكومات رفضت أن تبارح نهب ثروات شعوبها التي غمرتها الحروب والأمراض والعنصرية. وعندما قال “مانديلا”: (إن العظمة في هذه الحياة ليست في التعثر، ولكن في القيام بعد كل مرة نتعثر فيها)، كأنما كان يحدّق في مستقبل القارة ويدرك صعوبة الطريق إلى التنمية والحرية والازدهار. وكان يؤمن في الوقت نفسه بأن (ليل التعثر) لن يستمر طويلاً، لكن قدر القارة حتى الآن يجيب (هيهات).  
وعندما تطل الأزمات الساخنة في أي ركن من القارة الأفريقية ويهرول قادة العالم الغربي ومؤسساته وجيوشه لتقديم حلول، تطل معها أسئلة الشعوب الأفريقية الأكثر سخونة: أين حكامنا وحكوماتنا..؟ لكن لا أجابة. وعندما كانت الحكومات الأفريقية ومعها الشعوب تتابع بلا مبالاة على شاشات القنوات الإخبارية العالمية استيلاء الجماعات الإسلامية على الأراضي المالية وزحفها نحو العاصمة (تمبكتو)، كانت الدبلوماسية الفرنسية تطبخ خطتها بعيداً عن دهاليز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومؤسسات الاتحاد الأفريقي، وكان الجيش الفرنسي ينظم (خطوات تنظيمه) للتدخل في مستعمرته القديمة بلا انتظار لإشارة قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو).
 ويستشهد الكاتب “ديفيد بلير” في مقال بصحيفة (التلغراف) البريطانية مطلع الأسبوع الحالي، أن الرئيس الفرنسي “فرانسوا أولاند” هو آخر شخص يتوقع المرء أن يأمر قواته باتّخاذ خطوات عملية في مالي، لافتاً إلى أن “أولاند” وخلال حملته للانتخابات الرئاسية العام الماضي وضع نفسه كمرشح ضد الحرب أو ضد فكرة إرسال قوات فرنسية لأراضي الغير، خلافاً للرئيس الأكثر ميلاً للقتال “نيكولا ساركوزي” الذي لعب دوراً بارزاً في الحملة العسكرية للإطاحة بالدكتاتور الليبي “معمر القذافي” في العام  2011م.
ويشير الكاتب إلى أن أول أفعال السيد “أولاند” كرئيس هي إصدار أمر بسحب فوري لألفي جندي من أفغانستان، لكن عندما سيطر الإسلاميون المتشددون على أراضٍ واسعة في شمال مالي وكانوا يأملون في مواصلة توطيد قبضتهم على هذه المملكة الصحراوية، شعر “أولاند” بأنه ملزم بتدشين أول تدخل عسكري على الأرض.
وأوضح وزير الخارجية الفرنسي “لوران فابيوس” أن بلاده اضطرت للتدخل بشكل سريع في مالي (لأن جميع الدول المجاورة لمالي كانت مهددة)، مشيراً إلى أن باريس تدخلت (عسكرياً) في مالي للدفاع عن أفريقيا وكذلك عن أوروبا.
وأعرب “فابيوس” مجدداً عن أن بلاده لا تنوي البقاء بشكل دائم في مالي، ولكن فرنسا فقط كان بإمكانها مواجهة الجماعات الإسلامية (بشكل سريع)، مشدداً على أهمية أن تحترم الحكومة والجيش المالي الحقوق المدنية والعسكرية، في إشارة إلى التقارير الواردة بحدوث تجاوزات وسوء معاملة من جانب القوات المالية.
وبينما تجوب القوات الفرنسية الأراضي المالية حفاظاً على مصالحها في المستعمرة القديمة، تكتمل الاستعدادات لبدء أعمال القمة العادية الـ(20) للاتحاد الأفريقي اليوم وغداً بمقر المنظمة القارية بالعاصمة الأثيوبية (أديس أبابا) تحت شعار (الوحدة الشاملة والنهضة الأفريقية) بمشاركة قادة الدول الأفريقية والأمين العام للأمم المتحدة. 
وستبحث القمة توصيات المجلس التنفيذي حول تقرير المفوضية بشأن تنفيذ المقررات السابقة للمجلس التنفيذي والمؤتمر، وتقرير مجلس السلم والأمن حول أنشطته، وحالة السلم والأمن في أفريقيا، بما في ذلك أنشطة هيئة الحكماء.
كما ستنظر القمة تعزيز اللجنة التوجيهية لرؤساء دول وحكومات النيباد، وتقرير رئيس جمهورية سيراليون “آرنست باي كروما” رئيس لجنة العشرة حول إصلاحات الأمم المتحدة، وتقرير لجنة الرؤساء حول تغيرات المناخ، وتقرير من الرئيسة الليبيرية “إيلين جونسون سيرليف” حول أجندة التنمية لما بعد 2015م.
وسيتبادل الرؤساء الآراء بشأن تقرير تحويل المفوضية إلى سلطة الاتحاد، وكذلك تقرير اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى حول التجارة (تعزيز التجارة البينية الأفريقية) وإنشاء منطقة التجارة الحرة القارية.
وتقول رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي “دلامي زوما” في الجلسة الافتتاحية للمجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي أول أمس (الجمعة)، إن الاتحاد الأفريقي قادر على تجاوز التحديات والصعوبات كافة التي تواجه شعوب القارة، لافتة إلى أن المشاكل التي تجابه القارة كثيرة وصعبة، مؤكدة في الوقت ذاته أنها لن تقعد وتحبط القادة الأفارقة لإيجاد مخرج لها، وتابعت: (بإرادتنا القوية المشتركة وإصرارنا التاريخي تجاوزنا من قبل تحديات أكبر وهي قضايا الرق والعبودية في أفريقيا إلى جانب الفصل العنصري).
ويرى محللون أن القمة تواجه قضايا جساماً ومشاكل تتطلب حلولاً عاجلة حتى لا تسقط بعض الدول في أتون حروب أهلية ومشاكل إثنية، وعلى رأسها الأوضاع الأمنية في الكنغو وأفريقيا الوسطى، والقضايا الشائكة بين السودان وجنوب السودان، وقضايا الإرهاب  في مالي والجزائر. وقد ألمحت “زوما” إلى أن التطورات التي تجري في مالي قد سببت أزمة في القارة، وأدانت ما سمته بالاعتداء على المواقع الحكومية في مالي من قبل بعض الجماعات، وثمّنت الجهود التي تبذلها فرنسا والـ(إيكواس) لإدخال قوات أفريقية وفرنسية لحفظ النظام في مالي.
وطالب الزعماء الأفارقة في قمة (أديس أبابا) المجتمع الدولي بتقديم دعم بالمؤن والإمدادات والتمويل للسماح لقوة برية أفريقية، قوامها نحو ستة آلاف جندي، بالانتشار بشكل كامل في مالي.
وطالب مجلس السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي بزيادة أعداد القوات الأفريقية في مالي، وحضّ مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة على تقديم مساعدة لوجستية (مؤقتة) لتسريع وتيرة انتشار هذه القوات.
وجاء في بيان صادر عن الاجتماع: (يفوض الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، بالتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والشركاء الآخرين، في إعادة النظر في كيفية دعم القوات الدولية في مالي وزيادة أعدادها).
وأمهل المجلس الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي الراغبة في المشاركة في قوة التدخل أسبوعاً (لإبلاغ مفوضيتي الاتحاد الأفريقي ومجموعة غرب أفريقيا بهدف تسهيل جهود تعزيز قوة التدخل واتخاذ التدابير الملائمة لانتشارها في أسرع وقت).
وأضاف البيان إن زيادة أعداد القوة الأفريقية سيشمل (دمج قوات قدمتها تشاد وكتائب أخرى قيد الإعداد بحيث تلبي أكثر الحاجات الميدانية).
في السياق، حذّر وزير الخارجية البريطاني “وليام هيغ” أمس (السبت) من تحوّل مالي إلى دولة فاشلة، داعياً إلى تعلم الدروس من الأزمة الطويلة في الصومال. وقال “هيغ” في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إن المجتمع الدولي أخذ زمام المبادرة بمحاربة الإرهاب في الصومال، وقدم الدعم الإنساني والدبلوماسي لتهيئة المجال لإنشاء حكومة شرعية، مما ساهم في تحسن الوضع هناك. وأضاف إن الأسلحة التي تم تهريبها من ليبيا والطوارق ساهمت في تأزم الوضع في مالي، حيث تمكن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من استغلاله، مشدداً على أن حل هذه الأزمة يجب أن يكون بقيادة أفريقية. وأكد “هيغ” في هذا السياق (أهمية استخدام مجموعة متنوعة وكاملة من الأدوات السياسية والاقتصادية، وعند الضرورة القوة العسكرية التي نشرتها فرنسا في مالي، لكن الأهم هو أن تأتي غالبية هذه القوة من البلدان الأفريقية).
وبشأن الوضع في الجزائر، خاصة عقب العملية الإرهابية التي حدثت بمنطقة (عين اميناس) في 16 يناير 2013م، من قبل مجموعة إرهابية منشقة عن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي  وأسفرت عن وقوع العديد من الضحايا، أدانت رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي “زوما” الهجوم الإرهابي، مشيرة إلى أن القادة الأفارقة يعبرون عن قلقهم البالغ إزاء تفاقم الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، وأن الاتحاد الأفريقي بالتعاون مع المجتمع الدولي سيضاعف الجهود للتصدي لقضايا الإرهاب في الإقليم. 
لكن مراقبين يلفتون إلى أن قضية المال تمثل هاجساً للاتحاد الأفريقي تقعده عن أداء مهامه بصورة جيدة، مما يجعله في كثير من الحالات عرضة لتدخل الدول الغربية في شؤونه الداخلية. وفي خطوة لتوفير (الدعم المالي)، تم تشكيل لجنة رفيعة المستوى حول مصادر التمويل البديلة للاتحاد الأفريقي برئاسة الرئيس النيجيري الأسبق “أوليسيغون أوبو سانجو” حيث تمت مطالبة اللجنة بإرسال تقارير إلى وزراء الاقتصاد والمالية للدول الأعضاء حتى يتمكنوا من القيام بالملاحظات الأخيرة واتخاذ موقف قبل الدورة العادية رقم (21) لمؤتمر الرؤساء في مايو المقبل.
وبشأن قضية السودان وجنوب السودان التي ستكون على رأس أجندة قمة (أديس أبابا)، أشارت “زوما” لدى مخاطبتها الجلسة الافتتاحية لمجلس السلم والأمن الأفريقي على مستوى الرؤساء، أشارت إلى إحراز تقدم في مجال العلاقات بين دولتي السودان وجنوب السودان بسبب المتابعة اللصيقة لرئيسي البلدين لمسار الاتفاقات الموقعة بينهما، لافتة إلى أن الوضع بين الخرطوم وجوبا  يمثل تحدياً كبيراً للقارة لتحقيق ثقتها في فض النزاعات الأفريقية في إطار البيت الأفريقي.
وأضافت “زوما” إن الوضع ما زال معقداً بسبب النزاعات في جنوب كردفان والنيل الأزرق، مشيرة إلى أن الوساطة الأفريقية تسعى الآن إلى تطبيق خارطة الطريقة التي اعتمدها مجلس السلم والأمن الأفريقي في أبريل الماضي والتي تقوم على الحوار حول القضايا العالقة، مطالبة البلدين ببذل المزيد من الجهد للوصول إلى اتفاق يحل القضايا العالقة بينهما، مثمنة الجهود التي بذلتها اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى لتقريب وجهات النظر وصولاً إلى علاقات طبيعية بين البلدين.
وبين مقولة “مانديلا” أعلاه وأخرى يقول فيها (إننا نقتل أنفسنا عندما نُضَيّق خياراتنا في الحياة)، تنتظر الشعوب الأفريقية قرارات حكوماتها، بحثاً عن خيارات تبدّل حالها وترسم مسقبلاً يشبه تطلعاتها ويواكب ثرواتها.. فهل تنجح قمة (أديس) في السير في الاتجاه الصحيح؟ أم تظل تتبع خطى صويحباتها الـ(19) الفائتات؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية