أخبار

دمعة سعاد

تخرج من بزوغ خيوط الفجر تصلي لربها في خشوع وترفع أكفها بالدعاء.. قلب مفجوع وإيمان عميق بربها.. (ربي نجني) من النار وغضب الجار وأصرف عني جور الزمان ومكر السلطان.. تحفظ “سعاد” عن جدها صلاة الفاتح لأنها تجانية بالفطرة تتوق نفسها الأمارة بالخير لزيارة الكعبة ومسجد المصطفى في المدينة والاتجاه غرباً لبلدة فاس في المغرب حيث ضريح الشيخ “أحمد التجاني”. ودعها زوجها المختفي منذ سنوات في حرب الجنوب ما بين يقينها بموته وآمالها المعلقة بعودته يوماً ما.. لذلك رفضت الزواج والطلاق.. اختفى كل شيء من حياتها إلا صورة “حماد” زوجها المفقود.. في طريقها لقلب الخرطوم يومياً (دايشة داقشة) تستقل (بوكس) جيرانها “سيد أحمد” من حي السلمة إلى السوق العربي.. تجلس القرفصاء في الصندوق الخلفي وتدندن في وحشتها (بالأمل صبرت قلبي) اتخذت “سعاد” من المسافة التي تفصل شارع القصر وفندق المريديان سوقاً لبضاعة ممنوعة ولائياً وحكومياً وحلالاً عند رب العباد.. وكم من حلال حرمه القانون.. وكم من حرام أبيح بالقانون!.
تشعل “سعاد” منقدها في الصباح الباكر.. تصنع (الزلابية) زبائنها.. عامل مطعم.. حارس متجر كبير.. شرطي يسهر الليل لينام الآخرون.. أناس عابرون.. ومرافقون لمرضاهم يهرعون إليها.. لجودة الزلابية ورائحة الشاي الصباحي بحليب من مزارع “أسامة داود”.
“سعاد” بلغت من العمر ما يجعلها امرأة غير مغرية لمن يبتغي غير كوب الشاي وفنجان القهوة.. تقاوم “سعاد” منذ سنوات عسف السلطة وبطش المحلية.. يصادرون أمتعتها وتتوسل لمن يرق قلبه لنداء امرأة قهرها الفقر والعوز فيعيد إليها بعض مما ملكته وتصادر بقية أكواب الشاي و(البراد).. و(الكفتيرة) والمعالق.. ورطل السكر لمصلحة الدولة؟
في الرابعة من عصر الخميس (17) يناير طفت على أحد الأصدقاء من الوراقين بالقرب من فندق المرديان.. والوراقون الذين يفترشون الأرض هم مسامير الثقافة وروادها يبيعون الكتب المحظورة والممنوعة بأسعار باهظة. يسعدون جداً حينما تأمر الحكومة بمصادرة كتاب وتغلق رزقاً وتفتح باباً لرزق آخر.. أثناء بحثي المضني عن كتاب ما، لكاتب ما.. فجأة صرخت “سعاد” مذعورة (يالله سجمي الليلة).. الدولة تهجم برجال أشداء على الفقيرات المعوزات من ضحايا الحروب، ضعفاء في مواجهة جوكية المصارف.. رجال بملابس مدنية.. لا هم جنود نظاميون ولا هم شرطة.. إنهم عمال البلدية أو المحلية.. قلوبهم كالحجارة بل أشد قسوة.. بدأت معركة غير متكافئة بين نساء ورجال هجموا على أدوات صنع الشاي هجمة قوي معتز بنفسه.. أخذت “سعاد” تحتضن (عدة الشغل) كفتيرة.. بضع كبابي.. صينية.. رطل سكر.. خطف رجل ضخم الجثة تبدو ملامحه من قلب جبال النوبة (الكفتيرة).. وأخذ آخر المنقد.. بدأت مقاومة “سعاد” لثالث حاول نزع (الكفتيرة والشرقرق) من يدها.. انتصر الرجل وارتسمت علامات النصر على وجهه، وقالت “سعاد” مفجوعة: (حيَّ أنا خلاص شالوها)!
كنت أتابع صراع القوي والضعيف.. وانتهى بنتيجة منطقية وحتمية.. وقفت “سعاد” تنظر (لكومر) الدولة الذي أخذ ما تملك.. ثلاث من زميلات كفاحها المر وضعن مبالغ في يدها المرتجفة.. جفت شفتاها في لحظة وهي (تعتصر الألم)! نهض متسول عجوز من سجادته وضع شيئاً من رصيده في يد “سعاد”.. أخذت تتمتم (الحمد لله على كل شيء).. وأضافت: (يا ربي نحن سوينا شنو في البلد دا؟).. مشاهد المعركة تحفر في النفس السوية أخاديد من الأحزان والفواجع والمواجع حينما تصبح الدولة التي تباهي بقوتها وإسلامها ومشروعها الحضاري عدواً لامرأة تأكل من خشاش الأرض.. ولكن قلبها يدمع وعينها تدمع ونفسها مكسورة بالحاجة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية