حوارات

الخبير الاقتصادي والمصرفي د. “ميرغني محمد خليفة” في حوار الراهن الاقتصادي مع “المجهر”

*ظهور الأنشطة الاقتصادية غير الإنتاجية كالمضاربة في العملة فتكت بالاقتصاد.

*الأزمة الاقتصادية التي نعيشها الآن لم تكن وليدة اللحظة .. فقد بدأت منذ خروج عائدات النفط من ميزانية الدولة.
*الحلول الجزئية لا تؤدي إلى العلاج .. فلابد من سياسات مالية ونقدية تمكن من التعافي.
*حل مشكلة السيولة بإعادة الثقة للجهاز المصرفي .. ضخ الأموال بالصرافات ليست حلاً
حوار ـ رقية أبوشوك

الوضع الاقتصادي المأزوم الذي تمر به البلاد جعلنا نبحث عن مقترحات للحلول عبر الخبراء والمسئولين بالشأن الاقتصادي وذلك من أجل أن نجد حلولاً نتجاوز بها هذه الأزمة .. هذه الأزمة أفرزت الكثير من الآثار السالبة على الأوضاع المعيشية بصورة عامة حيث حدث ارتفاع غير مسبوق لأسعار جميع السلع الاستهلاكية وأدت إلى شلل كل القطاعات الإنتاجية في ظل شح أو انعدام السيولة.
ونحن نبحث عن الحلول والدراسة العميقة لأسباب الأزمة وضعنا أمام الخبير الاقتصادي والمصرفي د. “ميرغني محمد خليفة” عدداً من التساؤلات بوصفه قريباً من الملف ،حيث حفلت سيرته الذاتية بالعديد من المناصب في المجال الاقتصادي ،والتي على رأسها بنك المزارع ،وبنك الرواد بالإضافة إلى كونه أستاذاً جامعياً ومؤلفاً لعدد من الكتب التي تتناول كل ما له صلة بالاقتصاد ..شرح ووضع الحلول وكانت هذه الإفادات:
* والبلاد تمر بأزمة اقتصادية .. ممكن تحدثنا عن الأزمة وأسبابها وحلولها بوصفك خبيراً اقتصادياً ومصرفياً؟
الأزمة الاقتصادية التي نعيشها الآن لم تكن وليدة الشهور الماضية ، فقد بدأت منذ خروج النفط وعائداته من ميزانية الدولة حيث لم يضع القائمون على وزارة المالية وبنك السودان أي تصور واقعي لمواجهة الفجوة في الإيرادات التي ستنتج عن ذهاب عائدات نفط الجنوب، ولم يكن التحسب لهذه الخطوة بقدر أهمية الحدث ،إذ بني تقديرهذا الخروج على العائد من رسوم خدمات نقل البترول ورسوم العبور والاعتماد على الصادرات غير البترولية ،وكل التقديرات التي بُني عليها تحقيق الإيرادات كانت غير صحيحة ولم تحقق الهدف ،لأسباب منها أن الحكومة لم تكن تتوقع انفصال الجنوب ،لذلك لم تأخذ في الحسبان خروج النفط من ميزانية الدولة وكانت تعمل على خيار الوحدة الجاذبة ، وعندما تم الانفصال وبدأ بعض الخبراء يحذرون من مغبة ذهاب النفط وتأثير خروجه من الميزانية ،وعندما حدث خروج النفط جرت معالجات ولكنها كلها باءت بالفشل ،منها تحصيل رسوم على عبور النفط والذي توقف نتيجة لاندلاع الصراعات بين الحكومة والمعارضة في الجنوب ،ثم تم بعد ذلك الاتجاه للصادرات غير البترولية ،من المنتجات الزراعية ونتيجة للحصار الاقتصادي المفروض على البلاد وإهمال هذه  الصادرات فقد خرج السودان من أسواق تلك السلع رغم أنه يتمتع بميزات نسبية في إنتاج بعض هذه السلع ،إذ بدأت تهرب لدول الجوار التي أصبحت هي المتحكمة في أسواق تلك السلع مثل سلعة الصمغ العربي.
* ثم ماذا؟
أيضاً هناك جانب آخر هو الأشد فتكاً بالاقتصاد ،وهو ظهور بعض الأنشطة الاقتصادية غير الإنتاجية ، والتي أصبحت مهنة للكثيرين من رجال الأعمال والتجار، وهي المضاربة في العملة الأجنبية خاصة الدولار، بل الآن مع ظهور شح السيولة شمل الأمر العملة المحلية ،وهذه ظاهرة خطيرة يجب محاربتها بكل الوسائل للقضاء عليها، فتجارة العملة وعدم سيطرة الدولة على سعر الصرف هو السبب الرئيسي الذي أدى أيضاً إلى ظهور أعراض المشكلة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
* أيضاً هنالك إهمال حدث للقطاع الزراعي.
نعم ، ومن ناحية أخرى نجد أن جميع المشاريع الزراعية  الكبيرة ، الجزيرة، الرهد ،حلفا ،السوكي ،جبال النوبة ، مشاريع الشمالية تعرضت جميعاً للإهمال ،وعدم الاهتمام بتجديد بنيتها التحتية وتوفير التمويل لها، فأصبحت غير قادرة على الإنتاج وقل إنتاجها وتعرضت لمشاكل مالية أثرت في أدائها نتيجة لعدم الاهتمام بهذه المشاريع وذلك إبان فترة ظهور النفط كمورد أساسي للدولة، وقد كانت هذه المشاريع هي الركيزة الأساسية لموارد الدولة المالية من النقد الأجنبي قبل النفط.
* وكذلك القطاعات الأخرى بما فيها القطاع الصناعي.
أما القطاع الصناعي فقد أصبحت معظم المصانع خارج دائرة الإنتاج وبعضها تم بيعه خردة ،وإذا تحدثنا عن قطاع النقل فهو الآخر أصابه خلل كبير، فالسكة الحديد لم تعد هي الناقل الأساسي للسلع والركاب ،والخطوط الجوية السودانية لم تعد الناقل الوطني وهي لا تمتلك طائرات، وكذلك الخطوط البحرية ، وبالتالي لم يعد لهذا القطاع أي أثر في الاقتصاد ،أما في مجال الطرق فقد حدث فيه تطور كبير، فقد ربطت أطراف البلاد بشبكة طرق برية وشهدت كباري كثيرة .
*ألم تتفق معي في أن هنالك تحولاً قد حدث في مجال التعدين؟.
أجل ،هنالك تحول قد حدث في مجال التعدين واستخراج الذهب والمعادن الأخرى ،ولكن هذا يحتاج إلى رعاية من الدولة لتستفيد من موارد هذا القطاع، علماً بأنه مورد نابض فيجب الاهتمام به وعدم إهدار موارده ،فيجب أن توضع موارد هذا القطاع تحت سيطرة الدولة تماماً لكي تعود موارده للخزينة العامة.
أما قطاع الثروة الحيوانية، فهذا القطاع قد واجه بعض المشاكل نتيجة للحصار المفروض على البلاد حيث اختصر نشاطه في التصدير لدول الجوار فقط، وتعرض لبعض المشاكل مثل النقل ومدخلات إنتاج الإعلاف ومراكز التسمين والأدوية البيطرية وتوفير المياه في فترة الصيف، كل هذه وغيرها أثرت في أداء هذا القطاع المهم.
* بعد أن شرحت العلة .. كيف يمكن الخروج من هذه الأزمة؟
للخروج من هذه الأزمة لابد من علاج كل الأسباب التي أدت إليها ،فيجب أن تشخص المشكلة ووضع حلول متكاملة لمعالجة الأزمة، فالحلول الجزئية لا تفيد في علاج الأزمة الاقتصادية، فلابد من وضع السياسيات المالية والنقدية التي تمكن الاقتصاد من التعافي من هذه الأزمة.
* وماذا عن مشكلة السيولة .. هل من مقترحات للحلول؟
مشكلة السيولة لا تحل إلا بإعادة الثقة في المصارف ،وإعادة الثقة في المصارف تتطلب أن تفي المصارف بالتزاماتها تجاه عملائها ،وفي ظل الأزمة الحالية لن تستطيع المصارف الوفاء بهذه الالتزامات، وهذا يتطلب من المصارف إقناع كبار عملائها لتوريد النقد لدى المصارف وأن تلزم الدولة شركاتها ومؤسساتها الكبرى بتوريد ما لديها من نقد لدى المصارف.
*الآن قام بنك السودان المركزي بضخ فئات نقدية أكبر (100 ـ 200) جنيه و (500) جنيه في طريقها للتداول .. ألم تر أنها من الإمكان أن تحل المشكلة؟
أرى أن ما يقوم به البنك المركزي بضخ مبالغ نقدية لتغذية الصرافات الآلية ليس حلاً لأزمة السيولة ،لأن هذه المبالغ ستذهب لحملة البطاقات الآلية ،وهذه ظاهرة تجار السيولة (مصاصي السيولة) ،وهي ظاهرة خطيرة إذ تحرم ذوي الدخل المحدود من النقد وهم الذين يستهدفهم البنك المركزي بضخ هذه المبالغ عبر الصرافات الآلية ، لذلك من الأفضل أن يوقف ضخ هذه المبالغ عبر الصرافات الآلية ، وأن توجه هذه المبالغ لصرف مرتبات العاملين في القطاع العام والخاص عبر وحداتهم نقداً ،وأن تقوم المصارف بتسهيل خدمات الدفع الإلكتروني بالبطاقة في كل المحلات التجارية والخدمية وتعمم هذه الخدمة لتكون في متناول جميع المحلات التي تتعامل مع الجمهور ، على أن توفر المصارف هذه الخدمة لعملائها مجاناً دون أي رسوم ،لأن هذه الخدمات تساعد المصارف أن يكون لديها ودائع  بدلاً عن تواجد النقد خارج الجهاز المصرفي.
*هل لطباعة الفئات أي آثار سالبة؟
يجب أن تكون طباعة العملة حسب النسب المتعارف عليها ،من تحديد حجم الكتلة النقدية مقارنة بالدخل القومي ،فزيادة الكتلة النقدية بنسب كبيرة يؤدي إلى التضخم وارتفاع الأسعار، وهذا له مضار بالغة على الاقتصاد ،ويؤدي إلى انهيار قيمة العملة المحلية ،فطباعة العملة بفئات ومبالغ كبيرة يقلل تكلفة الطباعة ولكن هذه الفئات تساعد تجارالسيولة على تخزين العملة وخروجها من دائرة الجهاز المصرفي.
*ما هو المطلوب لإعادة الثقة للجهاز المصرفي؟
عموماً فإن إعادة الثقة للمصارف تتطلب جهوداً من إدارات المصارف والبنك المركزي والجهات والمؤسسات المالية الحكومية ،ومؤسسات القطاع الخاص الكبيرة حتى تعود الكتلة النقدية للجهاز المصرفي.
* ماذا عن استقرار سعر الصرف؟
مشكلة سعر الصرف هي المشكلة التي تواجه الدولة حالياً ،وظهرت أعراضها مع الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد الآن ،من نقص في الخبز والوقود والنقود والدواء وهي التي دفعت لخروج الشعب للشارع مطالباً الدولة بتوفيرهذه الضروريات ،هذه المشكلة لم تكن وليدة الثلاثة أو الأربعة أشهر الماضية وإنما مشكلة بدأت منذ انفصال الجنوب وخروج النفط كمورد أساسي من موارد الميزانية العامة كما أشرنا.
هل من حلول لاستقرار سعر الصرف؟
ولاستقرار سعر صرف أي عملة مقابل العملات الأجنبية الأخرى فلابد أن يكون لدى الدولة احتياطي من النقد الأجنبي لحماية عملتها من انخفاض قيمتها تجاه العملات الأجنبية، فإذا كانت هنالك زيادة في الطلب على النقد الأجنبي ،زادت الدولة عرض النقد الأجنبي من الاحتياطي لديها وذلك للمحافظة على سعر عملتها الوطنية من الانخفاض، نتيجة لزيادة الطلب على النقد الأجنبي ،لذا وجود احتياطي الدولة من النقد الأجنبي يساعد في استقرار سعر الصرف
*البلاد تعيش أيضاً ارتفاعاً كبيراً في الأسعار نتج عنه الانفلات الذي نعيشه الآن في الأسواق.
أنفلات السوق السبب الأساسي فيه خصخصة بعض الشركات التي كانت تورد نقداً أجنبياً وتحتكر تصدير سلع الصادر الرئيسية  كشركة الأقطان وشركة الحبوب الزيتية وشركة الصمغ العربي، فهذه الشركات كانت تعمل على تركيز أسعار هذه السلع في الأسواق العالمية، كما أن الحصول على نقد أجنبي يجعل الدولة تستطيع من خلاله التحكم في سعر الصرف وسد حاجتها من النقد الأجنبي، وكذلك الدولة كانت لديها شركات وواجهات حكومية كانت تستطيع من خلالها التحكم في أسعار السلع الضرورية كشركة الجزيرة والاتحاد التعاوني وغيرها،وكانت تساعد في توفير بعض السلع الاساسية ،بعيداً عن المضاربة في الأسواق ولكن هذه الجهات لم تعد قادرة على أداء هذا الدور خاصة الاتحاد التعاوني الذي أصبح خارج السوق وليس له دور يذكر في توفير تلك السلع كما كان دوره في السابق ،فالدولة فقدت بعض آلياتها  التي كانت تتحكم عن طريقها بالأسواق
* سؤال قبل الختام .
وفي الظروف الحالية والوضع الاقتصادي المتأزم الذي تعيشه البلاد وللخروج من الأزمة للأبد على الدولة أن تهتم بالموارد التي تمثل مصادر الدخل الحقيقي للدولة وهناك موارد قومية يجب أن تكون تحت رعاية وعناية الدولة وأن تتولى تسويقها وتصديرها، كالمعادن والنفط والغاز والصمغ العربي والقطن والحبوب الزيتية ومنتجات الثروة الحيوانية من لحوم وجلود ،فيجب على الدولة الاهتمام بهذه السلع وتوفير كل مدخلات الإنتاج لها، وتشجيع منتجي هذه السلع بشرائها بأسعار مجزية حتى يستمر الإنتاج
يجب أيضاً أن تعيد الدولة الثقة في شركاتها الحكومية التي كانت تتولى أمر تصدير هذه السلع مثل شركة الأقطان والصمغ العربي والحبوب الزيتية وشركة الماشية ومدابغ الجلود الحكومية ، على أن يتولى بنك السودان أمر صادرات الذهب وتنشأ شركات أخرى لبقية صادرات السلع القومية، وهذه الصادرات إذا توفرت لها العناية والرعاية ووجدت الاهتمام الكافي من الدولة ستوفر للدولة النقد الأجنبي الذي يغطي احتياجات البلاد من السلع المستوردة ويحقق احتياطياً  تستطيع من خلاله المحافظه على استقرار سعر صرف العملة الوطنية
* وأخيراً ماذا أنت قائل؟
الذهب يمكن أن يسد الفجوة ،إذا كان الإنتاج وفقاً للكميات المنتجة والمصدرة من تصريحات المسؤولين في مجال الذهب ،ولكن يلاحظ أن معظم الإنتاج من التعدين الأهلي وهذا يصعب التحكم فيه ،لأنه قابل للتهريب بالإضافة إلى خطورته على البيئة من المواد المستخدمة في استخلاص الذهب وعلى حياة العاملين في هذا المجال بانهيار الآبار
وعليه لابد أن تهتم الدولة بإنشاء شركات كبيرة وإدخال أحدث التقنيات لإنتاج الذهب ، وأن تحكم سيطرتها على تصديره ،وأن تحارب سبل التهريب بالشراء بالأسعار السائدة  في الأسواق العالمية وفرض رقابة مشددة على الإنتاج وقفل منافذ التهريب.
ولكن هناك سؤال هل الذهب مورد اقتصادي يمكن الاعتماد عليه في المدى الطويل ؟ أقول إنه من الموارد الاقتصادية الناضبة والتي لايمكن الاعتماد عليها في المدى الطويل فهو مورد غير متجدد لذا يجب الاستفادة منه بتوظيف العائدات منه في الاستثمار في الموارد المتجددة مثل الإنتاج الزراعي والحيواني.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية