محير جداً أمر السواد الأعظم من الشارع السوداني في بعض الأمور التي -ومن عجب- يتفق فيها أيما اتفاق. وزاد من هذه الجرعة _ أي الاتفاق_ حالة الاحتقان التي تمر بها البلاد هذه الأيام وتفسير أي تصرف كان، سيّما من المعارضين والمحتجين تفسيراً لا يخلو من تجريم.. وقلت يتفقون لأن الموضوع محل التجريم ربما لا يلم بأبعاده الكثيرون منهم، ومع ذلك ينخرطون فيه مأخوذين بهوج الاحتجاج فقط.
قلت قولي هذا على خلفية ما راج بأن الدكتور “محمد طاهر أيلا” يتنازل عن العربة (اللاندكروزر) التي أهدتها له اللجنة الشعبية بولاية الجزيرة لصالح مستشفى القلب بالولاية. كما تبرع بقطعة الأرض التي أهديت له بحي الزمالك لمرافقي مرضى السرطان وتبرع لبدء البناء بمبلغ (100) ألف جنيه من ماله الخاص. هاجت الدنيا (طبعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي) هذه الآفة التي تحولت منصة تجري فيها المحاكمات، ومن ثم تنصب فيها المشانق والمقاصل والقتل المعنوي بأدوات مسمومة لكل من يخالفهم الرأي. فما أن نشر هذا الخبر على صفحات (الفيسبوك) إلا واستل كل متداخل خنجره وأعمله في حشا النقاش تقطيعاً وتشويهاً لصورة الرجل، وكيف أنه لم يخدم أهل الجزيرة، ثم كيف أنه تجاهل الطلبات العديدة لدعم مستشفى سرطان الأطفال نفسه من قبل منظمات المجتمع المدني ولم يتركوا له (صفحة يرقد عليها)!. أفرض يا هؤلاء أن ثمة رؤية كان يضمرها لمعالجة ودعم هذا المستشفى ولمّا لم يمهله الزمن، تبرّع بما أُهدي إليه لصالحها. كذلك للذين قالوا بأنه أفقر المستشفيات وارتفع سعر الدواء في عهده، أعتقد أن المشكلة عامة بكل ولايات السودان وتفاكر في حلها أهل الربط والحزم على مستوى رئاسة الجمهورية. أما لمن قالوا من أين له بمائة ألف جنيه من ماله الخاص، فهذه في حد ذاتها مشكلة كون الظنون تذهب دائماً إلى أن أي مال خاص هو حق أصيل للشعب.. وحتى لا تهاجموني أُقرّ وأعترف أن هنالك كثيرين كنزوا خزائن بنوكهم من قوت الشعب وشحم أجسادهم وكروشهم المتدلية من أكل لحم الشعب. وما القطط السمان إلا جزء من منظومة (لهط) موارد البلاد باعتراف الرئيس نفسه، كما أن هنالك من انتفعوا ونفعوا أهليهم من لدن هذه المناصب. لكن وفي المقابل هنالك من أتى إلى المنصب وهو (شبعان من بيت أبوه) وأذكر في هذا الصدد أنه وذات لقاء صحفي مع الدكتور “كمال عبد القادر”؛ وكيل وزارة الصحة السابق وهو الذي أتى الوزارة بعد رحلة عمل بأوربا، وراتبه الذي كان يتقاضاه بالعملة الصعبة بها يساوي أضعافاً مضاعفة لما سيتقاضاه هنا، قال إنه وقبيل توليه إدارة مستشفى الخرطوم ثم وكالة الصحة سجل كل ممتلكاته التي جناها قبيل ذلك وعرضها على جهات عليا تحوطاً من أن تنتاشه سهام التجريم والتخوين، ولعلّ حاله يشبه حال البعض ومنهم الدكتور “أيلا”؛ فحسب سيرته الذاتية التي قال بها أقرانه إنه ومنذ أن كان طالباً تظهر عليه علامات الثراء، فضلاً عن أن والده كان من أعيان مدينة بورتسودان.
على كلّ فحديثي لا أعني به الدكتور “محمد طاهر أيلا” كشخص بعينه فحالة التجريم أصبحت ظاهرة مطردة في هذه الفترة ليس في هذا المنحى فحسب، بل في عدد من المناحي (ويا ويلك) إن دافعت عن المؤتمر الوطني أو بعض أفراده، عندها لا تضمن أن لا يعرض بك ويقتص منك بأبشع الأساليب كأن بالأمر سبة.. وكم شهدنا بجلد زملاء وأصدقاء ومعارف وسبّهم بأقذع العبارات، دون أن يردوا ببنت شفة، فكيف سيشفع ردهم أمام هذا الطوفان.
ما قدم للسيد “أيلا” وقبله عدد من الولاة والموظفون في أي من المواقع، لهو أمر طبيعي جبل عليه السودانيون بصورة عامة دون مطامع أو مقابل وهي عادة قديمة متأصلة في إكرام الضيف عند حضوره وتكريمه عند مغادرته.. فإن كان هذا حال هؤلاء وهم يرفضون الهدايا ويتبرعون بها، ترى كيف سيكون مصيرهم إن قبلوها!؟.. (ربنا يهدي النفوس)