(المجهر) في ضيافة أسرة الراحل الصاغ "محمود أبو بكر"
في الذكرى (57) لعيد استقلالنا، دعونا نحتفل بأناس أفذاذ شاركوا في وضع اللبنات الأولى للحركة الوطنية ، منهم من ساهم بإضراب، أو تحريض أو كلمة، ، ومن بين هؤلاء الصاغ “محمود أبو بكر حسن” الذي ناضل بالكلمة والبندقية، وقد تميزت شخصيته بالهدوء والصمت والحديث الودود والتفكر المتأمل، و رغم أنه كان ضابطاً صارماً وملتزماً إلا أنه كان رقيقاً شاعراً ورساماً وموسيقياً بارعاً.
هذا ما جاء على لسان زوجته الأستاذة الحاجة “فاطمة محمد المدني”، وهي من جيل النساء الرائدات، ذلك الجيل الذي بدأت فيه المرأة السودانية في ارتياد آفاق العلوم والسياسة والفنون، وتضيف: ولد الصاغ “محمود” بمدينة بور بجنوب السودان 1918م، ووالده من زعامات قبيلة (الحلنقة) الذين يمثلون إحدى الممالك الخمس الرئيسة التي تكون مجموعة (البجا) في شرق السودان، وهنا يتدخل ابن الصاغ، العميد معاش “حسن محمود” ليضيف: اشتهر جدنا “حسن أحمد” كفارس تراثي يعرفه (البجا) عموماً ويمجدونه، حيث هاجر إبان الثورة المهدية إلى أم درمان وانتقلت معه كل الأسرة فاستقرت في أم درمان.
{ حكايته مع العسكرية
ويمضي العميد معاش “حسن” قائلاً: إن جده “أبو بكر” التحق بالمدرسة الحربية ضمن أول دفعة تخرجت عام 1907م، برتبة ملازم ثانٍ، واستمر في الخدمة مترقياً حتى رتبة البكباشي، ثم تقاعد بعد ذلك ليتولى منصب مأمور مدينة أم درمان، وانتقل “محمود” مع أبيه بعدها إلى عطبرة، وأكمل تعليمه المتوسط بمدرسة حلفا الأميرية الوسطى، ثم عاد إلى أم درمان ليلتحق بكلية غردون، قسم الإدارة المكتبية وتخرج سنة 1934م، وعمل بإدارة السكة الحديد ثم التحق طالباً في المدرسة الحربية أوائل عام 1938م.
{ أسباب التحاق شاعرنا بالجيش
وتقول ابنته الأستاذة الجامعية د. “رجاء محمود” عميد كلية التنمية البشرية جامعة أم درمان الأهلية، إن والدها التحق بالجيش حتى ينال السودان استقلاله، وأضافت: برزت أهمية (قوة دفاع السودان) بعد أن تنامت مطامع إيطاليا في الشرق إثر معاركها ضد الأحباش واحتلالها إريتريا، ومن ثم احتلالها لمدينة (كسلا) مهددة شرق السودان كله، وكانت بريطانيا ترمي إلى تعزيز قواتها العسكرية بجنود من أبناء مستعمراتها بعد أن تعالت نذر الحرب العالمية الثانية. فوعدت السودانيين بالاستقلال إذا حارب أبناؤهم بجانبها، فكان ذلك حافزاً قوياً لشباب السودان لينضم إلى الجيش، وقال والدي في هذا الموضوع شعراً:
فديتك يا شعب النجاشي أمة ** رجالاتها في الروع لم تتفرق
بني وطني هل بينكم من مهند ** على درج الأشلاء والموت يرتقي
وتستطرد د. “رجاء محمد” قائلة: عمل والدي بمدرسة المشاة لفترة، ، ثم نقل بعدها إلى سلاح الفرسان (طوبجية)، وخرّج ضباطاً وجنوداً دخلوا (العلمين) منتصرين، و(طرابلس الغرب) محتلين، و(كرن) فاتحين، وتختتم د. “رجاء” حديثها بأنها تأثرت بأشعاره بدليل تخصصها في اللغة العربية، وقالت: وهو الذي قادني إلى تنقيح ديوانه (أكواب بابل من ألسن البلابل).
{ معارك خاضها شاعرنا:
ويقول أبنه “حسن” لـ(المجهر) لعل قصيدته الوجدانية المعروفة (زاهي في خدرو) والتي نظمها بـ(الدارجة) أثناء المعارك في شمال أفريقيا تنصت رغم رقتها أنفاس المعارك الحارقة إذ يقول:
قالوا ليهو القطر تقدم ** والكفرة نيرانا زي جهنم
حن قلبو ودمعو سال ** هف بي الشوق قال وقال
ويمضي قائلاً: بعد أن انتهت الحرب في شمال أفريقيا توجهت القوات السودانية ومعها اليوزباشي “محمود أبو بكر” إلى (مالطا) و(صقلية) للمشاركة في الحرب الأوروبية بجانب بريطانيا، وأثبت الجندي السوداني جدارة أقنعت بريطانيا بأنه الوحيد الذي يملك الكفاءة لرد القوات الإيطالية التي بدأت تهدد بجدية مناطق إريتريا وحدود الجبهة الشرقية للسودان في إريتريا وكسلا، وعاد والدي مع القوات إلى القيادة الشرقية بالقضارف حيث كانت القوة متأهبة للتحرك إلى إريتريا لمباشرة القتال، فشارك في معارك (كرن) و(بارنتو) و(عراقة) و(حلحل) و(تلكيزان) وغيرها.
{ قصة (صه يا كنار)
الأستاذة “فاطمة محمد المدني” حرم شاعرنا “محمود أبو بكر” وهي من مواليد بورتسودان 1932م.. وأكملت تعليمها حتى الثانوي بالمدرسة الإنجيلية بالخرطوم بحري، ثم عملت معلمة بمدارس الأحفاد للبنات بأم درمان، قبل التحاقها بالمعهد الفني لتتخرج في كلية الفنون الجميلة التطبيقية، حكت لـ(ا لمجهر)عن مناسبة قصيدته العبقرية (صه يا كنار) حيث قالت: انها كانت مُحرّضة على النضال، أما اسم الكنار فقد كان يطلق على كل المناضلين من أفراد الشباب، وهو الاسم الذي خاطب به صديقه الشاعر المهندس “إبراهيم عمر الأمين” حيث قال:
أنا يا كنار فدتك نفسي لم أكن ** أنسى الوداد ولا أنا المتقلب
ملكت عليّ النفس منك مكارم ** وخلال (محمود) ترق وتعذب
وتمضي الحاجة “فاطمة” قائلة لـ(المجهر) إن قصيدة (صه يا كنار) من القصائد الثائرة التي تموج بالوطنية والتحريض على النضال
{ لا يوجد صرح يحمل اسمه
إلى ذلك قالت “إلهام محمود أبو بكر” (ابنته الوسطى)، إن والدها ظُلم في تقييمه باعتبار أنه أنزل بعد وفاته بذات الرتبة القديمة (الصاغ) وفي العادة عند الوفاة يرتقي إلى رتبة أعلى، ولم يُسمَ صرح أو مدرسة أو شارع باسمه ولم يُكرّم “محمود أبو بكر” التكريم الذي يستحقه.
{ رحيل الشاعر “محمود”
في أمسية (السبت) السادس والعشرين من شهر يونيو سنة 1971م، في المستشفى العسكري بأم درمان حانت لحظة الفراق، وحلق (النسر) بعيداً ملبياً نداء ربه، حيث توقف القلب الرحيب عن الخفقان وكف البلبل عن الشدو.