المفقود موجود
# مما تعلمته من أساتذتي في مهنة الصحافة وعند البدايات أن أبغض المعالجات الصحافية الحديث عن النفس الفانية تعظيما وتهويلا وتسويد الصفحات بقضايا خاصة أو اجترار تجارب ذاتيه غير ذات مصلحة عامة للقارئ والمتلقي وكان المعلم “محمود قلندر” و”عوض الله سليمان” والدكتور “مكي محمد مكي” يأخذون بأيدي الصحافيين ويعلمونه قيما راسخة في البعد عن الأنا البغيضة إلا حينما يضطر المرء وقد أحل الله للمضطر أكل المتردية والنطيحة وحتى ما أهل به لغير الله.
منذ سنوات ظللت اتسلل خلسة من مشاغل الخرطوم وارتباطات المهنة لقضاء يومين على الأقل كل شهر في ربوع كردفان وقراها وفلواتها وأسواقها تجديدا لأوكسجين النفس ووصلا للأهل ومنافع أخرى وقد أرغمتنا ظروف الخرطوم وشظف عيشها للبحث عن لقمة الكسرة وملاح أم رقيقة في ضروع النعم ومخمسات الذرة والفول وامس في سوق الحاجز الذي يمثل أكبر اسواق الماشية في السودان بحساب عدد قطعان الماشية التي تدخل حظيرة السوق نحو خمسة آلاف من الإبل وضعفها من الماعز والغنم ونصفها من الأبقار وتقدر العُملات المتداولة من الجنيهات السودانية بنحو خمسين مليار جنيه في يوم الجمعة تأتي الأموال محمولة على الجولات البلاستيكية (والظباء ) وهي تشبه السعن أي جلد التيس المدبوغ ويأتي التجار من أم درمان على ظهور كل ضامر من صناعة اليابان لاندكروزرات وبكاسي ولااثر هنا للتعامل بالشيك أو البطاقات المصرفية وقد فشلت البنوك منذ زمان كان للناس ثقة فيها بجذب مدخرات الرعاة والمزارعين أما الآن وقد أصبحت البنوك شبحا شيء مذموما فلا سبيل لولوج هذه الأموال الكبيرة الجهاز المصرفي الذي اضر بنفسه حينما أذعن لتمرير قرارات إدارية تنزلت عليه من البنك المركزي ولم يبد اعتراضا عليها وهو يعلم مخاطر تطبيقها
سألت التجار من أين يحصلون على الأوراق المالية وكل البلاد تعاني من نقص وشح في السيولة وكانت إجابتهم الصادمة بأنهم غير معنيين أصلا بالبنوك ولا يتعاملون بالشيكات وقال أحدهم حفر حفرة داخل بيته ووضع مبلغ مليار جنيه في جوفها أفضل له من الذهاب بثروته للبنك الذي يأخذها دون وجه حق ويحرمه منها قلت له ألا تخاف أن تأكل دودة الأرض أموالك ؟
أن تأكلها دودة الأرض أمام عيناي أهون من أن يأكلها مسؤولو الحكومة.
قلت له لكن مسؤولي الحكومة لم يأكلوا أموال الناس المودعة في المصارف فقال لي بصورة مباغته (طيب القروش أكلها منو )؟؟ في ذلك السوق الذي فكر الجنرال مفضل من قبل نزعه من المحلية وضمه لوزارة المالية تغيب الدولة تماما لا طبيب بيطري يرشد الرعاة ولا طبيب بشري يصف الدواء ومن المفارقات وعجائب بلادنا أن واحدا من دفعتنا في المدرسة الابتدائية كان يملك محل عجلات وتخصص في تصليح العجلات لزمان طويل وتنامت ثروته فأصبح الآن صيدلي يبيع في الدواء ويحقن الحمير والغنم والنساء وطلاب المدارس وآلاف الخريجين من كليات البيطرة يتظاهرون في الخرطوم (تسقط بس ) بعد أن استيأسوا من وجود وظائف في القطاعين العام والخاص
قبل فترة حدثتكم عن امرأة متهمة بسرقة هاتف من رجل وقفت تلك المرأة أمام محكمة العمدة “مالك دراس” أبوهم وبدلا من الإجابة على سؤال وجه إليها العمدة هل تصنعين الخمر وتبيعينها؟ هطلت دمعة من خدها وقالت للمحكمة من الأفضل أن اصنع الخمرة أم أمارس البغاء؟
احتارت المحكمة وتمت إحالة المرأة للقاضي الذي أمر بدراسة حالتها وتم منحها تمويل من البنك أربعة آلاف جنيه فقط وأصبحت تبيع الشاي في سوق الدبيبات ولكنها تعثرت في السداد ومهددة بدخول السجن فهل مثل هذه الحالات تستحق الزكاة أم يستحق الزكاة آخرين ؟
امرأة أخرى اسمها “مريم شرف الدين” تعمل بائعة للكول والويكة تخرج من الصباح وتعود في هجعة الليل علمت بناتها الثلاث تخرجت البنت الأولى في كلية التربية والثانية في كلية الزراعة والثالثة كلية الموارد وابنها الوحيد يدرس بالجامعة وتسكن في بيتها الحيازة بأطراف مدينة الدبيبات منذ ٢٤ سنه بدون أوراق وتفاجأت مؤخرا بأن بيتها قد خصصته الحكومة لنفسها أي أضحت أرض حكومية مع أن كل أرض آلله الواسعة ملكا الحكومة ومثل “مريم شرف الدين” لم يسمع بها اتحاد المرآة الذي هو تنظيم فوق النساء وبدلا من تكريم “مريم شرف الدين” تحرم من بيتها، ولكن الوزير “عمر شيخ الدين” الذي يتولى وزارة التخطيط والعمراني وهو وزير رءوف ورحيم أمر مدير الأراضي بتخصيص بيتها لأسرتها ودفع من جيبه رسوم قطعة الأرض فرفعت يدها وسألت الله أن يوفق الوزير وحكومته ومسحت بطرف ثوبها دمعتها.
بعض من مشاهد لا يراها الحكام وشيء من واقع الريف الذي أسقطته الحكومة من دفتر يومياتها فالمال المفقود موجود، ولكن كيف تخطط حكومتنا الرشيدة أتمنى أن لأ تفكر في حلول بالبوليس والقوة لإرغام الناس على إيداع أموالهم في المصارف وقد تفتقت عبقرية حكومة شمال كردفان للقيام بحملات تفتيش بحثا عن النقود وإذا قبض عليك تحمل مبالغ مالية كبيرة يفتح لك حساب في البنك ويتم إيداع المآل قهرا وتلك من الحلول التي تفتقر للذكاء.