الوفاء لمستحقيه
{ بعض الشعوب لا تعرف طعم الاستقلال ولا تحتفل به لأنها لم تخضع للاستعمار الأجنبي، وبعض الشعوب لا تزال خاضعة للاستعمار ولكنها تخوض معركة من أجل حريتها.. والسودان نال حريته في مثل هذا اليوم من 1956م، بجهد وكفاح أبناء الوطن المخلصين، وتحقق الاستقلال دون إراقة دماء مثلما هو حال الاستقلال الأول حينما انتصرت الثورة المهدية على المستعمر، وكحال دول مثل الجزائر التي دفع ثمن الاستقلال فيها مليون شهيد وجنوب أفريقيا وأنجولا.
نال السودان استقلاله ولم يدفع ثمناً باهظاً مثل شعوب أخرى.. وانصرف جيل الاستقلال نحو تحرير البلاد من المستعمر ولكن جرثومة الخلافات وتصدعات الجبهة الداخلية (نالت) من الوحدة التي تحققت في مطلع سنوات الاستقلال بين القوى السياسية الرئيسية من البلاد من دعاة الاستقلال إلى دعاة الاتحاد مع مصر.
وخاب أمل أباء الاستقلال بنشوب حرب الجنوب التي أقعدت الوطن الواعد بإنتاجه الزراعي والحيواني من النهوض وتفشت في جسده العلل والأمراض وأقعدته عن المسير في ركب الشعوب والأمم التي نالت استقلالها من بعده، وقد مات من السودانيين الآلاف ببنادق أنفسهم بلا رحمة أو وازع وطني حتى كاد الرقم أن يبلغ المليون ضحية في حرب الذات.
{ تقلب الوطن في أحضان حكومات مدنية سرعان ما تفشل في الحفاظ على سلطتها فتسقط تحت مجنزرات الجيش الذي حكم السودان لفترات تطاولت من نوفمبر 1959م، وحتى أكتوبر 1964م، وما لبثت الحياة السياسية أن عادت للمدنيين عبر انتفاضة شعبية ولكن النخب المدنية فشلت في الارتقاء بالتجربة لتعود المؤسسة العسكرية وتقتلع السلطة لمدة ستة عشر عاماً.. وفي سنوات الديمقراطية تضمر الإنجازات المادية وتغذي الأفكار والثقافة شرايين المجتمع، ولكن الشعب يأكل الخبز ويتطلع للحصول على الدواء والخدمات.. وعام 1985م، عادت الديمقراطية للبلاد بفضل ثورة جماهيرية بيد أن الحرب في الجنوب أجهضت التجربة والحرب هي القاسم المشترك في سقوط الحكومات و(قيامها).
ولما كان الأمر كذلك.. سقطت الديمقراطية مرة ثالثة في 30 يونيو 1989م، لتبدأ دورة حكم جديدة أساسها وعظمها وسندها وظهرها الحصين المؤسسة العسكرية، ولحمها وأكسجين حياتها الحركة الإسلامية.. ولمدة 23 عاماً (تقلبت) البلاد بين حرب في الجنوب وأخرى في الغرب ونهوض البترول من باطن الأرض وهبوط الذهب من سماء العدم وقيام مشروعات تنموية عملاقة كسد مروي وخزان الروصيرص وطريق الشمال القاري وجسور الخرطوم.
{ الاستقلال الوطني حاولت بعض الأنظمة المتعاقبة على الحكم في البلاد (تجبيره وإدعاء أن ما تحقق في الأول من يناير لا يعدو كونه انتقالاً للسلطة يرفق من مستعمر أجنبي لوطني عاجز عن الخروج بالبلاد من أزماتها.. وحاولت حكومات وقيادات ادعاء أن الاستقلال ما تحقق إلا بوصولها هي للسلطة، ولكن الأول من يناير من عام 1956م، بقي وسيبقى هو عيد الاستقلال الحقيقي بمعناه الكيميائي وما عداه جهود نحو تحرير الاقتصاد والقرار وإسقاط مفاهيم اليوم على التاريخ القديم (تجعلنا) نسقط في (حبائل) التجني على الآباء بلا أسباب.
{ يبقى “إسماعيل الأزهري” مقدساً سياسياً للشعب السوداني ورمزاً وطنياً خالداً والوفاء للأزهري ورفاقه من صنع الاستقلال هو وفاء لأهل العطاء.