شاهدت على المستوى الشخصي في الأسبوع المنصرم مأساة تدمي القلوب والمشاعر، حيث لم أصدق ذلك المشهد الكارثي في بادئ الأمر، والذي كان مسرحه واحدة من جزارات سوق الخرطوم بحري القديم، فقد كانت هنالك أكوام من العظام على طاولة الجزارة توحي للناظر كأنها إضافة للزبائن الذين يشترون اللحوم، غير أن الصاعقة ألجمت كياني عندما رأيت امرأة مسكينة تدفع للجزار مبلغ (40) جنيهاً مقابل شراء كومين من العظام بحيث يكون سعر الكوم الواحد بمبلغ (20) جنيهاً، سألت الجزار عن هذه اللوحة الداكنة، فإذا به يقول لي بأن هنالك أعداداً كبيرة من المواطنين أصبحوا يتناولون وجبة العظام الخالي من اللحوم، حيث يستخدمونها كحساء أو يخلطونها مع الخضار بعد أن بلغ بهم العوز وضيق ذات اليد مبلغاً كبيراً.. ما رأيته كان واقعاً ملموساً ومؤلماً، ولم يكن حلماً في منام بل كان موقفاً موجعاً وكارثياً، في قطر يعتبر من أغنى الدول التي توجد فيها الثروة الحيوانية، والتي يضاهي عددها بأكثر من خمسة أضعاف عدد السكان في بلادنا، فالماشية بمختلف أنواعها التي تشمل الأبقار والضأن والماعز والجمال، يقول المختصون بأنها تتجاوز أكثر من (90) مليون في أعدادها على حساب سكان السودان، ومع ذلك يصل سعر كيلو العجالي إلى (180) جنيهاً بينما يصل سعر كيلو الضأن إلى (270) جنيهاً، فالواضح أن هذا الغلاء الطاحن والارتفاع الجنوني في أسعار اللحوم جعل شرائح كبيرة من المواطنين تستضيف حساء العظام على مائدتها في مشهد مؤثر، حيث كانت العظام في الماضي تضع على القمامة وبلاط الجزارين قبيل أن تصبح اليوم تاجاً من الفخامة يسد الرمق على الأفواه.
إشكالية اللحوم التي وصلت إلى هذا المستوى المخجل والمؤسف تمثل انفجاراً غاضباً ومكتوماً في الضلوع ولوعة مأساوية وحارقة في النفوس أبطالها سياسات اقتصادية وتجارية فاشلة وإمبراطورية من السماسرة لا ترحم السواد الأعظم من المواطنين ولا تخاف الله سبحانه وتعالى.. ومعاملات غامضة في دنيا تجارة الماشية.. فما هو المنطق الذي يجعل تصدير اللحوم الحية والمذبوحة تؤدي إلى ارتفاع أسعارها في البلد الذي يصدر تلك اللحوم.. وهل الأقطار التي تصدر الماشية مثل أستراليا ونيوزيلندا والمغرب تحدث فيها مثل هذه المعادلة المقلوبة والكارثية؟ بل كيف ينعكس تصدير الماشية إلى الخارج غلاءً وقتامه وخنجراً على صدور السودانيين بدلاً من أن يكون عائداً من الخير والرفاهية والهناء؟.. وهل يعقل أن الدولة التي تستورد من بلادنا تلك اللحوم تقوم بتصديرها إلى أوروبا بأسعار عالية بعد أن تضيف عليها بعضاً من اللمسات والإضافات والمقادير العلمية.
تظل وجبة حساء العظام أو خلطها مع الخضار على المائدة السودانية بمثابة محكمة شعبية وأخلاقية على سياستنا وتصوراتنا في ملف الثروة الحيوانية في الذاكرة السودانية.. إذ كيف يحرم أصحاب الكسوة من الدفء؟!!