“البشير” يفتح خزائن حكومته لسداد ثمن السلام
ما قبل وما بعد القرار الرئاسي بوقف الحرب في المنطقتين!!
كادوقلي- يوسف عبد المنان
لم تخرج مدينة كادوقلي في تاريخها الطويل لاستقبال مسؤول تنفيذي وسياسي طوال ثلاثين عاماً إلا مرتين.. يوم انتخاب الوالي الأسبق الراحل “باب الله بريمة” على خلفية صراع عنيف شهدته دهاليز الحكومة بين الوالي د.”حبيب أحمد مختوم” ووزير ماليته “مكي علي بلايل”.. فانحازت المدينة والولاية بأجمعها لـ”بلايل” ورفضت “مختوم”، وحينما انتخب الراحل “باب الله” شعرت القاعدة العريضة بأن حقوقاً لها قد عادت وسدت الجماهير حينذاك الطرقات، مثلما خرجت يوم أمس الأول لاستقبال الرئيس “عمر البشير” في زيارة نصفها عسكري والنصف الآخر سياسي.. ودوافع الخروج بتلك الكثافة والحماس والهتافات التي شقت صمت الجبال التي اختفت وراء غيوم يناير.. لأن فئة من المتمردين والمعارضين قد انطلقت دعواهم في الأسافير والإعلام الجديد لمقاطعة زيارة الرئيس “البشير”.. مع أن أهل جنوب كردفان كان لهم موقف مناوئ للاحتجاجات التي تمددت في كل الولايات باستثناء جنوب وغرب كردفان.. وولايات دارفور الخمس.
وأسباب مقاطعة خطاب المعارضة الداعي للخروج إلى الشارع لإسقاط النظام متعددة منها الذاتي والموضوعي.. وحتى الأحياء الطرفية في الخرطوم التي تعدّ امتداداً لـ(جبال النوبة) أو (جنوب كردفان) كانت استجابتها لدعوات الاحتجاجات ضعيفة لأن أهالي تلك المنطقة يعدّون غير معنيين بالصراع الحالي، ولا مصلحة مرتجاة من دعاة (تسقط بس)!! وقد غرقت جبال النوبة في أحزانها ودموعها ولم تجد من الذين خرجوا إلى الشوارع اليوم إلا محاولات الركوب على ظهر المنطقة واستثمار احتجاجها الذي يمتد إلى سنوات سحيقة، والرئيس “عمر البشير” وحده من حكام السودان المتعاقبين من اعترف بمشكلة جبال النوبة، ووقعت حكومته ثلاثة اتفاقيات لمعالجة الظلامات التاريخية التي تعرضت لها جبال النوبة، كانت الأولى في عام 1997م مع اللجنة المركزية للحركة الشعبية بقيادة “محمد هارون كافي” واتفاقية سويسرا لوقف إطلاق النار 2003م، وأخيراً اتفاقية السلام بروتوكول المنطقتين في عام 2005م، وتستعد المنطقة اليوم لاستقبال الاتفاقية الثالثة التي تتخلق الآن بين كاودة حيث رئاسة الحركة وكادوقلي مسرح لقاء الرئيس بأهالي جبال النوبة، ومدينة جوبا التي أعلنت مبادرة للتوفيق والوساطة بين فرقاء السودان رداً لدين في عنق” سلفا كير” قدمه “البشير” من خلال اتفاقية الخرطوم الأخيرة.
{ كادوقلي صورة جديدة
منذ عام لم تطأ قدماي مدينة كادوقلي.. وكان آخر عهدي بها في يوليو العام الماضي.. المدينة لم تتغير ملامحها ولم تغشها تنمية أو عمران في السنوات الأخيرة باستثناء كلية الطب التي افتتحت أمس في مبنى المستشفى المرجعي الذي شيده مولانا “أحمد هارون” و”عبد العزيز الحلو” أيام الشراكة بين الوطني والشعبية.. وكادوقلي التي خرجت أمس بكل شبابها ونسائها ورجالها ذوي البشرة السمراء والقلوب البيضاء، أثبت الجنرال “أحمد إبراهيم مفضل” قدرة فائقة على دقة التنظيم.. والوصول إلى الناس رغم التحفظات حول صمته.. وغموض شخصيته.. إلا أن الجنرال قد بدأت ثمرات صمته تؤتي خراجها.. وكانت الجماهير التي استقبلت “البشير” أمس الأول أكبر من جماهير ود مدني.. ومن نيالا.. والكريدة.. وتلك لقاءات كانت مفتوحة على أفواه الإعلام وأضواء الكاميرات.. والمناسبة في كادوقلي عيد الشهيد القومي.. وعيداً آخر لجبال النوبة بإعلان الرئيس وقف الحرب ونهاية (المأساة المنسية) في جبال النوبة.
فرضت المناسبة على الرئيس أن يأتي بـ”الكاكي” وقد اختفت تلك (العرجة) الخفيفة جراء عملية تغيير وتبديل (الركب) ومشى الرئيس بخطوات عسكرية يحسده عليها الصول “عمر أبو شاخورا”.. والملازم “شبو” أحد أعلام الهجانة.. وتبدت علامات الرضا والارتياح على محيا الرئيس “البشير” وجموع القيادات تقف (صفوف صفوف) وموسيقى القوات المسلحة تعزف ذلك اللحن الشجي (لن ننسى أياماً مضت، لن ننسى ذكراها) ربما تذكر الرئيس أيامه في كادوقلي ورفيق دربه “عمر سليمان آدم” ورحلة الأيام الصعبة من كادوقلي للخرطوم لتسلُّم السلطة.
{ الإعلان السياسي يدفع ثمن السلام
لأول مرة يتحدث الرئيس بصراحة شديدة.. ويعلن استعداده لدفع أي ثمن من أجل السلام.. يفتح خزانة حكومته لسداد ثمن السلام إن كانت حقائب وزارية أو مشروعات تنموية يتم تنفيذها في جبال النوبة.. وقد أثبت الرئيس مرة أخرى أنه لاعب ذكي، وسياسي حصيف استطاع أن يفعل أشياء أقرب للمستحيل.. “البشير” سجن “الميرغني” و”الترابي” و”الصادق” و”نقد”.. وصالحهم جميعاً.. استثمر في ضعف الأحزاب، جمع بين الصوفية وأنصار السنة وآخى بين الختمية والأنصار.. جعل من “أبو قردة” و”السنوسي” رفيقا رحلته إلى كادوقلي و”حامد مختار” لاعب وسط.. ود.”فضل عبد الله” الصامت ينظر ويتأمل في عيش جبال النوبة الملأ القندول كما يقول “المحبوب عبد السلام”.
وجه الرئيس رسالة إلى (إيقاد)، ولشركائها الأوروبيين ولوفد الولايات المتحدة الذي يفاوض حكومته من أجل رفع اسم السودان من قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، وإلى الشارع السوداني بأن أسباب الأزمة التي يعيشها ضيق في العيش وشح في الخدمات يستطيع الرئيس تجاوزها بجهده السياسي ودبلوماسية القصر الرئاسي، وتقديم تنازلات حقيقية لحاملي السلاح تعيدهم للخرطوم، وذلك من شأنه فتح أبواب التعاون مع الخارج وخفض الإنفاق.. وبعث الرئيس برسالة في ذات الوقت إلى وفد التفاوض بأن القيادة العليا للدولة تبحث عن السلام، وعلى المفاوضين الارتقاء لمستوى التكليف!!
وإعلان وقف إطلاق النار من غير سقف هذه المرة، يعني نهاية الحرب في جبال النوبة وبزوغ فجر جديد للمنطقة التي حينما تحدث الرئيس عن إنسانها قال إنه مزيج متفرد ما بين العروبة والنوبية.. وروى “البشير” بطريقته الخاصة قصة المبعوث الدولي الذي تحدث إليه وكشف في حضرة الرئيس خفايا وأسرار مزاعم بعض المنظمات.. قال الرئيس إن المبعوث الأممي كما اعترف بلسانه إن دافعه لزيارة جبال النوبة تقصي الحقائق عن وجود تطهير عرقي.. وعند وصول المبعوث لمنطقة جنوب كادوقلي، تسمى (المساكين)، وقف في قرية ووجدها خالية من سكانها، فظن بادئ الأمر أنها قرية يقطنها النوبة وتمت إبادتهم من قبل العرب.. ولكن تفاجأ بأن سكان القرية قد ذهبوا جميعاً لحضور مناسبة زواج في قرية أخرى.. لم يقتنع المبعوث بما قيل له وطلب زيارة القرية التي ذهب إليها السكان فوجدهم يرقصون ويلعبون في قرية يقطنها النوبة، وأضاف المبعوث: (اقتنعت بأن تطهير عرقي في جبال النوبة مافي وشريعة مافي)، تلك العبارات جعلت إستاد كادوقلي يرقص طرباً مع حديث الرئيس و”البشير” بخبرته يملك مفاتيح عديدة لزرع الابتسامة في الوجوه العابسة!!
{ تبر وتراب
تظل الجماهير وفية لمن يعطي.. ولمن يقف معها في عسرها قبل يسرها.. وذاكرة الناس لا تنسى أفضال الرجال حينما أخذ الجنرال “مفضل” يبعث بالشكر لمن غبّر أقدامه من الولاة والمسؤولين، وحضر من الضعين والفولة ونيالا.. وشمال دارفور وسنار إلى كادوقلي مشاركاً في عيد الشهيد القومي.. ذكر ضمن الحضور مولانا “أحمد محمد هارون” والي جنوب كردفان الذي جاء من بعده ثلاثة من الولاة “آدم الفكي” ود.”عيسى آدم أبكر” ثم الجنرال “مفضل”، لكنه أي “هارون” ظل في قلوب الناس، وهتفت جماهير كادوقلي وتوقف الوالي “مفضل” مفسحاً للصادقين ليعبروا عن مشاعرهم نحو “هارون”.. ضجت الساحة بالهتافات والنساء أطلقن الزغاريد.. واضطر “هارون” للوقوف لتحية الجماهير في مشهد مهيب ولحظات سرقت دموع الرجل وهو الذي لا يبكي لترح أو فرح.. وحينما ذهبت القيادات للقاء الرئيس والفعاليات السياسية خرج والي شرق دارفور “أنس عمر” خلسة إلى داخل مدينة كادوقلي، جلس في دكان (الأنصاري) السياسي “حمدان علي البولاد”.. شرب القهوة والشاي وتبادل الحديث مع الناس، سامرهم.. وحاورهم من غير ميعاد ولا معرفة سابقة، حيث زار “أنس عمر” كادوقلي لأول مرة في حياته.. لكنه حاول اكتشاف كادوقلي الاجتماعية بنفسه بعيداً عن زخم المنصب وبريق السلطة.. بينما كان ديوان الزكاة الاتحادي يقدم مبلغ (13) مليار جنيه للشهداء ولا يتحدث الدكتور “محمد عبد الرازق”.. يشيّد الديوان (25) وحدة سكنية، ويقدم (9) مليارات جنيه عبارة عن مشروعات إنتاجية لعدد (520) أسرة من أسر الشهداء والارامل.. ويدفع د. “محمد عبد الرازق” من مصارف الوكاة (250) مليون جنيه لدعم الزواج الجماعي.. ولأن ديوان الزكاة في عهد الأمين الحالي آثر الصمت والعطاء من غير جلبة وضوضاء، فاحتفالات عيد الشهيد بكادوقلي تكفل ديوان الزكاة بنصف مشروعاتها والنصف الآخر منظمة الشهيد الاتحادية.
{ “أبو قردة” و”السنوسي” وأسرار الحشد
تحدث الوزير “أبو قردة” عن أحزاب الحوار الوطني.. وأثنى على جهد جنوب كردفان وتمسكها بمخرجات الحوار، وقال إن الأحزاب التي وقّعت على مخرجات الحوار لن تترجل من القطار في منتصف الطريق.. ودعا إلى تحقيق السلام في المنطقتين ودارفور.. وكان لافتاً صمت الشيخ “إبراهيم السنوسي” مساعد الرئيس، وفي صمت “السنوسي” كلام.. وعندما صلى بالرئيس في مسجد القصر الذي شيده الراحل “محمود حسيب” دعا “السنوسي” طويلاً أن يحفظ الله جنوب كردفان وأن يتحقق السلام، وتنقشع غمة الحرب وسحابة الحزن.. وسألت القيادي في حزب المؤتمر الوطني ورئيس القطاع الاقتصادي “شريف الشيخ” عن أسرار خروج جنوب كردفان بهذه الكثافة لاستقبال الرئيس، فقال إنها ثمرة لنهج خطه نائب رئيس المؤتمر الوطني “إسماعيل يحيى” بإشراك كل القيادات دون عزل.. وأثنى “شريف الشيخ” على الوالي “مفضل” الذي بدأت ثمرات حكومته بإصلاح الخدمة المدنية.. وتأهيل بيت الضيافة وأمانة الحكومة، وكبح جماح الصراعات التي كانت تسود في دهاليز الحزب الحاكم.
عاد الرئيس إلى الخرطوم في ذات المساء، وعادت لكادوقلي عافيتها.. ووضعت رسالة وقف إطلاق النار الحركة بجناحيها في مأزق صعب.. فكيف تكون ردة فعلها في الأيام القادمات؟؟