رأي

عام مضى على رحيلك

تجانى حاج موسى

هاتفتني الشاعرة “روضة الحاج” وهي ملء السمع والأبصار.. أتابع بإعجاب شديد مسيرتها في مجال الإعلام والثقافة لاسيما تجربتها الشعرية التي بدأتها منذ أن كانت يافعة بمدينتها كسلا الوريفة الشاربة من الطيبة ديمة، والحمد لله فقد حققت كثيراً من طموحاتها.. فهي شاعرة معروفة على مستوى الوطن العربي تشارك بصورة راتبة في المحافل الشعرية بالعديد من منابر الشعر داخلياً وخارجياً، ونالت العديد من الجوائز وشعارات العرفان والتقدير، وصلت إلى البرلمان.. تقلدت عضوية العديد من لجان التحكيم في عدد من مسابقات الثقافة في مجال النشر الأدبي.. ناشرة لمجلة دورية حفلت بكتابات العديد من الأقلام الشهيرة وآخر إنجاز لها تأسيس كيان طوعي يعنى بالثقافة، وشرفتني بأن أكون أحد أعضاء هذا الكيان، رفدت مكتبة الشعر بعدد من الدواوين الشعرية.. هاتفتني لأشارك في اجتماع تأبين وإحياء ذكرى رحيل أستاذنا الشاعر الكبير والإعلامي الضليع “سيف الدين الدسوقي” – يرحمه الله – والذي انقضى عام على وفاته، وما كنت أحسب أن عامه الأول قد انقضى!! لكنها أيام آخر الدنيا تنقضي عجلى!! ولا زالت تفاصيل سرادق العزاء محفوظة في ذاكرتي وكل المعزين من الأحباء الإعلاميين والأهل والعشيرة، ويظل الموت هو حقيقة الوجود الكبرى – سبحان الله – ليبلونا أينا أحسن عملاً.. وجعل الصبر والسلوى والنسيان صفات يتمتع بها الإنسان حتى لا ينفطر قلبه عند فقده لأحبته.. شكراً لك أيتها الشاعرة “روضة” وأنت تحشدينا في ذكرى أستاذ لنا في الشعر والإعلام.. بحثت عن مرثية كتبتها في فقده لم أجدها لعلها اختفت لأن عباراتها لا ترقى لوصف صفاته النبيلة الحميدة.. فالراحل خلد اسمه في سفر الخلود بعطائه الأدبي المتميز.. أكتب عنه اليوم ليقرأ سيرته الأبناء والبنات لاسيما من يهتمون بالشعر والأدب الرصين.. والراحل نشأ في بيت علم ودين، فوالده معلم وجده شيخ الطريقة السمانية.. لذا وجدت موهبته الرعاية فنضجت وأثمرت ذلك الشاعر العظيم.. بالطبع ما أكتبه عنه أعتبره خطوطاً عريضة ألخص بها سفراً كبيراً تمور صفحاته بالتميز والإبداع.. يشهد له.
مهرجان الشعر الكبير الذي كانت تجري فعالياته بالعراق (مهرجان المربد الشعري) الذي كان يحتشد فيه أشهر الشعراء وظل يملأ مقعده في كل موسم من مواسمه، إذ كان له من المعجبين الآلاف من محبي شعره الذين يأتون خصيصاً ليسمعوا أشعاره أو من يتابعونها عبر الإذاعات المرئية والمسموعة.. تلك العلاقة جعلت كبار الشعراء يأتون إلى السودان ليقرأوا أشعارهم.. “نزار قباني”.. “الأبنودي”.. “محمود درويش”.. “أحمد عبد المعطي حجازي” وكثير من أصدقائه شاهدناهم وتحدثنا معهم وحضرنا أمسياتهم بعاصمتنا الخرطوم، وقد كانت عاصمة ثقافية في تلك السنوات الطيبة ونحن في معية الصبا نحاول كتابة الشعر.
إذاعة أم درمان العريقة تشهد له بعطائه البرامجي والشعري فهو من جيل الإعلاميين الشاملين، فهو معد للبرامج ومخرج ومذيع.. وحينما اغترب إلى السعودية بزَّ أقرانه من الإعلاميين وتتلمذ على يده عشرات العشرات ممن يدينون له بالأستاذية.. ولم يفتنه بريق المال مثلما قال في قصيدته الشهيرة شجرة الحناء، فشد رحاله حينما دعاه النيل للعودة إلى ربوع الوطن والأهل والأحبة بحي العرب العريق بمدينة أم درمان التي (شدوا ووردوا الناس فوقا ونادوا بقية الأجناس)، كما أنشد الشاعر الراحل “عبد الله محمد زين” في رائعته (أنا أم درمان.. أنا السودان أنا الدر البزين بلدي).. جار وصديق شاعرنا الذي نحتفي بذكراه.
“سيف الدين الدسوقي” اصطحبته في عدد مقدر من الأمسيات الشعرية وفي ذلك مفخرة لي وتكريم ما بعده تكريم وأنا من الجيل الذي يليه في محاولاتي في كتابة الشعر.. آخر مرة قرأت معه الشعر كان في أمسية شعرية استضافتنا فيها جامعة الجزيرة.. – يومها – قال لي: حينما تقرأ الشعر أنظر إلى المايكروفون بحب واحترام ستراه متوهجاً فرحاً بصوتك.. ولا تتعجل وأنت تقرأه على سامعيك ، وجسد بصوتك معاني أشعارك محتفياً بها، واجعل لقصيدتك ألواناً تناسب اللوحة التي رسمتها في قصيدتك، ولا تبخس قدر نفسك، فالحشد الذي أمامك جاء ليستمع إليك.. في ذلك اليوم علمت بضعف بصره فقد أخطأ
في حمل كوب الماء مرتين.
شكراً لك أيتها “الروضة” فقد أصبت بإقامتك احتفالية رحيل شاعرنا، وتخلفت الوزارة المختصة بالثقافة في القيام بهذا الواجب.. شاعرنا كان أنيق العبارة والزي.. الإفرنجي أو البلدي السوداني..أشعاره مبنى ومعنى سهلة وممتنعة.. يكتب الفصحى بنفس الجودة التي يكتب بها الدارجة.. والغنائية في موسيقاه الشعرية كانت عالية لا الأذن التي تستمع إلى أشعاره.. نطرب جميعاً حينما يقرأ.. ما في حتى رسالة واحدة بيها اتصبر شوية والوعد بيناتنا إنك كل يوم ترسل إليّ.. – فقد كان يتغنى بقصائده لذا لم يجد الراحل المطرب “الجابري” مشقة في تأليف لحن أغنيته رسائل.. كذلك فعل الموسيقار المؤلف صديق الراحل “عبد اللطيف خضر” في الرائعة التي صدح بها صديقه وابن حيه الفنان الذري “إبراهيم عوض”.. أما ثنائيته مع صديقه رائد الأغنية الشعبية “محمد أحمد عوض” فتلك حكاية أخرى أتعجب لها في منهج البساطة التي اختار بها راحلنا مفرداته.. لعلي أطلت.. معذرة فهذا لمحبتي لأستاذي.
يرحمك الله رحمة واسعة وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل البركة في ذريتك فهم على دربك سائرون وفيهم من جيناتك الكثير.. آمين.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية