تقارير

د.”سالم” من مغترب يتقاضى (15) ألف دولار في الشهر لوزير في عين العاصفة الاجتماعية!

قراءة في دفتر وزير العدل د."محمد أحمد سالم"

حديث السبت – يوسف عبد المنان

لجنة تقصي الحقائق مهمة صعبة وأحداث شائكة..

الدكتور “محمد أحمد سالم” وزير العدل الحالي (67) عاماً هو عاشر وزير يجلس على كرسي العدل خلال سنوات الإنقاذ التي بلغت ثلاثين عاماً، وتعتبر وزارة العدل الأكثر اضطراباً.. ولا يزيد عمر الوزير عن ثلاث سنوات وبعض وزراء العدل مكثوا لشهور محدودة وغادروا المنصب الرفيع.. مثل الوزير السابق (جميل) الذي تم استدعاؤه من دولة خليجية حيث يعمل مستشاراً هناك.. لتقلد المنصب الرفيع، ولكن لم يمض على تعيينه إلا شهور محدودة وتم إبعاده من المنصب وفقد موقعه في الدولة الخليجية.. ولم تصبر عليه حكومته.. وبعض وزراء العدل طواهم النسيان.. وغادروا المشهد السياسي العام من غير عودة، مثل مولانا “محمد علي المرضي” حاكم كردفان في سنوات الديمقراطية الثالثة.. وقد خرج من الوزارة بجروح واتهامات دفعته لاختيار عزلته الحالية، والوزير “محمد أحمد سالم” شخصية عرفت باستقلالية الرأي والبعد عن العراك السياسي والالتزام التنظيمي الصارم.. رغم أن الرجل إسلامي التوجه والفكر.. تعلم من مدرسة “الترابي” في القانون.. وكان “سالم” مستشاراً بالبرلمان لسنوات طويلة.. عاصر سنوات “محمد الأمين خليفة” في البرلمان الانتقالي وسنوات “الترابي” التي انتهت بوقائع الرابع من رمضان.. وأسندت لـ”محمد أحمد سالم” مهام رئيس هيئة الانتخابات، وشكل ثنائية مع د.”جلال محمد أحمد” وكلاهما من مدرسة الواقعية السياسية والالتزام بتقاليد الخدمة المدنية وحيادها.. ويعتبر د.”محمد أحمد سالم” العقل المخطط لفكرة مجلس الأحزاب.
غادر السودان إلى دولة الكويت مستشاراً ليحصد راتباً شهرياً يصل لـ(15) ألف دولار في الشهر، وتذاكر سفر له ولأسرته وبدل إجازة وثلاث سيارات.. وامتيازات قل أن ينالها سوداني في بلدان الخليج.. ولكنه ضحى بكل تلك الامتيازات وأقبل على الجلوس وزيراً في كرسي العدل الذي تحيط به الخلافات العميقة وسط المستشارين، ويعلم القاصي وراعي الضأن في بادية الكبابيش (الصراعات) بين الأجنحة التي تقاتل بعضها على النفوذ والمصالح في وزارة العدل.. ولجأت القيادة السياسية لأمثال د.”محمد أحمد سالم” وقبله “جميل”.. و”محمد علي المرضي” و”عبد العزيز شدو” بحثاً عن وزير يسمو فوق صراع المصالح الضيقة!! وينهي (تطاحن) الأجنحة.. التي أفسدت تجربة الإسلاميين في وزارة كان الشيخ “الترابي” أول من حفر عميقاً في تربتها لزراعة من يعتقد بأنهم في مقبل الأيام بمقدورهم قيادة التغيير القانوني في البلاد، لكنهم انصرفوا لمصالحهم في وقت لاحق.
جاء تعيين “محمد أحمد سالم” مفاجئاً لكثير من أعضاء المكتب القيادي.. مثلما تفاجأ د.”نافع علي نافع” بترشيح الدكتور “عبد الله حمدوك” وزيراً للمالية، وقدم “نافع” مرافعته عن شخصية “حمدوك” والتزامه الصارم باليسار كفكرة، ولكن في مناخ الاستقطاب والانقسام لم يأبه الكثير بما يقوله الناصحون، ووقف أغلب أعضاء المكتب القيادي مع اتجاهات الريح.. بيد أن “محمد أحمد سالم” حصل على إجماع كبير من قادة الحزب.. في وقت أعاد فيه الرئيس كفاءة مثل “صلاح قوش” لجهاز الأمن واختار الدكتور “أزهري عبد القادر” وزيراً للنفط، ولم يعير اعتراضات د.”عوض أحمد الجاز” اهتماماً.. وحينما وضع “محمد أحمد سالم” أقدامه في وزارة العدل.. كانت توصيات الحوار الوطني قد (قسمت الوزارة) إلى نيابة عامة استأثرت باللحم وتركت للوزارة العظم.. معظم الأراضي.. ذهبت للنيابة العامة.. والعقارات في الولايات، وتم تحسين أوضاع المستشارين في النيابة وحصلوا أخيراً على قرار مثير للجدل بامتياز الـ(20%) من التسويات المالية في قضايا الفساد، وكانت العلاقة بين العدل والهيئة القضائية في أيام د.”عوض الحسن النور” قد شهدت فتوراً وتبايناً في وجهات النظر إزاء القضايا العامة.. ورغم المهام الكبيرة التي أسندت لوزارة العدل والملفات ذات الارتباط بالمجتمع الدولي والسياسة الخارجية، مثل حقوق الإنسان والتشريعات المرتبطة بالاتفاقيات الدولية.. ومهام الدفاع عن الحكومة أمام المحاكم.. ووضع القوانين إلا أن وزارة العدل مثل أسطورة طائرة (البغو) تقول القصة إن طائر (البغو) اصطاده أحد سكان القرى إحداهما تقع غرب الوادي والثانية شرقه ويفصل بينهما وادٍ غير ذي زرع .. سقط الطائر في الوادي وسال دمه حتى فاض الوادي بالدم بدلاً عن الماء.. وهرع سكان القرية التي تقع غرب الوادي وسكان القرية التي تقع شرق الوادي، وبدأوا في نزع الريش عن الطائر الضخم بحثاً عن اللحم، وبعد جهد استغرق نصف يوم التقت أيادي سكان القريتين دون حصول أي منهما على قطعة لحم!!
تلك القصة الخرافية تشبه حال وزارة العدل التي تقيم في عمارة زجاجية فاخرة تقع في قلب الخرطوم النابض، ونعني بقلب الخرطوم المنطقة الواقعة شرق القصر الرئاسي وحتى جامعة الخرطوم، هي وزارة ذات صيت وبريق وعلى عاتقها مهام كبيرة ولكنها فقيرة مالياً.. وأوضاع المستشارين في غاية البؤس ولا تملك موارد مالية.
{ كيف يفكر وزيرها؟
د.”محمد أحمد سالم” بسيرته المهنية (المحترمة) وخبراته الطويلة في الدولة يواجه مصاعب كبيرة جداً على صعيد ملف حقوق الإنسان.. وهو ملف تتشابك خيوطه ما بين وزارة العدل والداخلية والدفاع وجهاز الأمن والخارجية.. والإعلام.. والقضاء.. والمنظمات الطوعية.. وفي كل عام يخوض السودان معركة في مجلس حقوق الإنسان، الذي يضع السودان ضمن الدول الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان في العالم.. وتعتبر قضية حقوق الإنسان من أسلحة العصر الحديث التي تستخدم في الضغط على الأنظمة والحكومات غير القادرة على كبح جماح العنف.. أو الحكومات الفقيرة التي لا تملك مالاً تشتري به صمت المنظمات الحقوقية العالمية.. أو الحكومات التي لا تلتزم بمعايير ومبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. ودخل السودان في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي في (معمعة) حقوق الإنسان من خلال المعارضين السودانيين الذين نشطوا في المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية.. ومنظمة التضامن المسيحي.. ومنظمة أطباء بلا حدود.. واللجنة الدولية للصليب الأحمر.. ومنظمة اليونيسيف.. وغيرها.. واختار السودان بطوعه منهج التفاوض مع الغرب.. ومحاولة تحسين صورته.. والدفاع عن نفسه أمام مجلس حقوق الإنسان بدلاً من خيار آخر اتخذته بلدان مثل كوبا.. وكوريا وإسرائيل.. وفيتنام.. وبلاروسيا التي اعتبرت دولاً (مارقة) وغير متعاونة.. وتم حرمانها من مساعدات الأمم المتحدة.. ولا تكلف مثل هذه الدول نفسها عناء الرد على الاتهامات التي تطالها سنوياً والإدانات التي تنهال عليها عند كل دورة من دورات مجلس حقوق الإنسان.. وهناك دول تملك النفط مثل بلدان الخليج تشتري بمالها صمت المنظمات ولها علاقات مع الولايات المتحدة أكثر الدول انتهاكاً لحقوق الإنسان تحميها من جور المنظمات وتقاريرها.. ولعبت قضية الجنوب دوراً مهماً في وضع السودان في قائمة الدول المنتهكة لحقوق الإنسان في البند الرابع.. إلا أن التوقيع على اتفاقية السلام رفع السودان إلى البند الخامس بالمساعدات الإنسانية، وفي العام الماضي.. حققت الدولة تقدماً كبيراً بوقف إطلاق النار في المنطقتين ودارفور والحوار الوطني.. ومكافحة الهجرة غير الشرعية لأوروبا.. مما عزز حظوظ السودان برفع اسمه من قائمة الدول المنتهكة لحقوق الإنسان، وتقرر فتح مكتب بالخرطوم لمندوب من المفوض السامي يتلقى التقارير عن أوضاع حقوق الإنسان والتعاون مع الحكومة السودانية.. ويعتقد الوزير “محمد أحمد سالم” أن التثقيف والتوعية بحقوق الإنسان من القضايا الهامة جداً لتفادي الصدام غير المنتج بين الخرطوم والمجتمع الدولي، وكان لوجود السفير د.”مصطفى عثمان إسماعيل” بخبرته الطويلة ووعيه الأثر البالغ في نجاح الحوار السوداني الأمريكي حول حقوق الإنسان في الدورة الماضية.. ويقول الوزير إن التعاون مع المكتب الذي ينتظر افتتاحه في الخرطوم ضرورة.. ونشر الحقائق وإيقاف الإجراءات التي تطال الصحافة.. والالتزام بالقانون في حالات الاعتقالات ضرورة والنظر في القضايا التي يتم إثارتها بجدية وفي الوقت المناسب.
{ لجنة تقصي الحقائق
بعد نشوب الاحتجاجات الأخيرة وأعمال العنف التي شهدتها بعض مدن السودان وحرق المؤسسات وتخريب ونهب الممتلكات الخاصة والعامة.. ووقوع ضحايا.. في كل من عطبرة والخرطوم والقضارف.. أصدر الرئيس “عمر البشير” قراراً بتكوين لجنة تقصي حقائق حول التظاهرات الأخيرة وما صاحبها من أحداث في الخرطوم وبقية ولايات السودان، وكانت الأجهزة الأمنية قد عرضت صوراً لأشخاص قالت إنهم يشكلون خلايا مسلحة تتبع لحركة تحرير السودان التي يقودها “عبد الواحد محمد نور” في دارفور.. وإن هذه الخلايا ندبت نفسها لأعمال عنف وقتل.. وأعلنت الحكومة عن وضع يدها على أسلحة في منازل كان يقيم بها المقبوض عليهم.. وبعد مداهمة السلطات لتلك الخلايا لم تشهد التظاهرات التي قادها ناشطون في الخرطوم وبحري أعمال قتل.. فهل كان للقبض على تلك الخلايا أثر في ذلك؟ ووقعت حالات قتل في أم درمان، وتقول المعارضة إنها وقعت بسلاح الحكومة.. بينما تقول الحكومة إن عناصر تملك أسلحة تتسلل بين المتظاهرين وتطلق النار على بعضهم من أماكن قريبة، وإن أغلب الضحايا غير المنتمين إلى الأحزاب التي تقود المظاهرات مثل الحزب الشيوعي والمؤتمر السوداني وحزب البعث.. وتذهب تحليلات بعض الصحافيين إلى أن جهة ثالثة مستفيدة من دماء الضحايا هي من يرتكب جرائم القتل.
في هذه الظروف وقبل أن تنفض التظاهرات نهائياً قرر الرئيس “عمر البشير” من خلال مسؤوليته القومية التحقق من الجهات التي قتلت المتظاهرين.. والجهات التي نهب ممتلكات الدولة.. وخربت.. وعملاً بأحكام المادة (3) (1) من قانون لجان التحقيق لعام 1954م، أصدر الرئيس قراراً بتكوين لجنة تقصي الحقائق حول التظاهرات الأخيرة وما صاحبها من أحداث في الخرطوم وبقية الولايات، وجاء تكوين اللجنة برئاسة وزير العدل وعضوية “طارق حاج علي” وزير الدولة بمجلس الوزراء، و”أبو القاسم إمام الحاج” الوزير بديوان الحكم الاتحادي، وهو متمرد سابق من دارفور.. له تجربة في المعارضة المسلحة وتجربة في السلام ثم العودة للتمرد مرة ثانية، والسلام الآن، و”مأمون حسن إبراهيم” وزير الدولة بالإعلام، وممثل للنيابة العامة، وممثل لوزارة الداخلية، ولجهاز الأمن الوطني والمخابرات، والمحامي العام لجمهورية السودان، وهي لجنة بهذا التكوين قادرة على الوصول للحقائق، خاصة إذا نظرنا إلى اختصاصاتها التي تشمل رصد كل الأحداث منذ بدايتها وتحليل أسبابها ودوافعها وتحديد أوجه القصور سواء في التدابير والنظم والسياسات أو في التصرفات من قبل المسؤولين أو أي جهة.. وحصر الخسائر والأضرار التي حدثت في الأرواح والممتلكات الخاصة والعامة، وتحديد المسؤولية عن أي أفعال أو تصرفات تشكل جرائم أو مخالفة للقانون، واقتراح التوصيات اللازمة بشأن جبر الضرر ورد الحقوق ومحاسبة المسؤولين عن أية جرائم أو مخالفات، ومنح الرئيس اللجنة سلطات وصلاحيات بأن تصدر أوامر التكليف لأي شخص بالحضور أمامها، وإذا رأت لسبب معتدل بأية بينة يمكن أن تساعد في التحقيق، كما يجوز لها أن تستجوب ذلك الشخص بعد أن يؤدي اليمين حسب ديانته أو معتقده، أن تطلب أو تأمر بتقديم كل الوثائق والمستندات التي ترى أنها ضرورية لأغراض التحقيق وأن تصدر أوامر القبض على أي شخص كلف بالحضور وتخلف ولم يبدِ عذراً يقنع اللجنة، وأن تتخذ كافة الإجراءات التي تعينها في مباشرة اختصاصاتها وفقاً لقانون لجان التحقيق، والاستعانة بمن تراه من الأشخاص والجهات المختصة لمعاونتها في أداء مهامها، على أن ترفع اللجنة تقريراً وافياً في نهاية عملها يتضمن ما قامت به من إجراءات وما توصلت إليه من نتائج وتوصيات خلال مدة أقصاها شهر واحد من صور القرار في الرابع والعشرين من ربيع الأول، الحادي والثلاثين من ديسمبر 2018م، وبهذا القرار بات وزير العدل أمام مسؤولية وطنية كبيرة.. وأثبت الرئيس حرصه على سلامة أبناء وطنه.. وضرورة التزام الأجهزة الحكومية بالقانون.. ومحاسبة أي فرد أو جهة ترتكب جرائم قتل ونهب وسرقة وعنف مادي أو معنوي.. والخطوة من شأنها تعزيز الثقة في أجهزة العدالة الوطنية في التقصي عن الجرائم وتقديم الأفراد للقضاء في حال تجاوزهم للقانون.. والخطوة التي اتخذتها الحكومة من شأنها أن تخفف التدخل الأجنبي في شؤون البلاد، وتعزيز الثقة في القضاء والنيابة وأجهزة إنفاذ القانون.
فهل ينجح د.”سالم” في أكبر مهمة تسند لوزير عدل خلال الثلاثين عاماً الماضية؟ ، أم يخفق في مهمته؟ ، وتتخذ منظمات حقوق الإنسان ما حدث في البلاد ذريعة للتدخل مرة أخرى وإعادة تقييم الأوضاع بطريقتهم الانتقائية المتحاملة على بلادنا.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية