(هذا بيان للناس)
لقد سبق أن قلت إني صائم عن الحديث، ولكن اليوم أفطر على مائدة الحق (والحق أحق أن يتبع)، المنطلق أن المبدأ حرية العقيدة والتعبير، وهي الحرية التي وهبها الله لعباده (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، لا منحة من حاكم ولا تستقيم الحياة إلا بها، وإلا كان الإنسان منافقاً وعبداً وشيطاناً أخرس.
وهي الحرية التي نادى بها شيخ “حسن” وكتبها ثم رحل رحمه الله، ومن أجلها جلسنا في الحوار وقبلنا توصياته ودخلنا بها الحكومة، وعلى أساسها نلتزم البقاء في الحكومة في السراء والضراء معها.
إن الأحداث والمظاهرات والاحتجاجات التي حدثت، كان موقفنا منها وأنا رئيس مجلس الشورى للمؤتمر الشعبي، نرى أن سببها سوء التخطيط والسياسات الاقتصادية الخاطئة الفاسدة، والتي اعترف بها المسؤولون، قادت إلى الاحتجاجات وهي حق لا ريب فيه، ولكن صاحبها تخريب أنتج إتلافاً وضرراً حتى للمواطنين أنفسهم، قابله عنف مفرط أزهق أرواحاً، وكلاهما بالنسبة لنا مرفوض وغير مقبول ولا مبرر له ويقتضي المحاسبة.
المعادلة السياسية في الحكم عقد بين الحكومة لتوفير العيش الكريم والخدمات والأمن للمواطنين، في مقابل الاحترام والطاعة، وهذا ما لم تفعله الحكومة، إذ خرج المواطنون جياعاً يطلبون الغذاء ويشكون الغلاء ونهب المال العام، وهو حق مطلوب ومشروع، فصاحبه تخريب وقتل وكلاهما ندينه.
ولكن اختلافنا في الرأي أن الأمر ما كان ينبغي أن يصل حد القتل من الأجهزة واستعمال السلطة المفرطة وسفك دم وهو حرام عندي أغلى من السيارات والممتلكات، فهي قد ترد وتستجمع ولكن الأرواح لا يمكن إرجاعها.
لقد تسنى لي بالأمس، أن شهدت بعضاً منها، إذ كنت سائراً في شارع امتداد ناصر حوالي الساعة الرابعة مساءً، فوجدت شباباً في حدود العشرين محيطين بإطارات مشتعلة يسدون بها الطريق، ولكنهم مع ذلك كانوا يتركون السيارات تمر ومن بينها سيارتي ولم يعترضوها، فاستحسنت ذلك، ولو لا منصبي وسني لشاركتهم، فلقد كنت يوماً مثلهم وفي سنهم قائداً للمظاهرات والمواكب في ثورة أكتوبر 1964م لإسقاط نظام “عبود”، ثم في موكب أمان السودان المليوني الذي كنت قائده أيام نظام “النميري”.
ثم سمعت فيما بعد بالمظاهرات في بري، التي قتل فيها أحد الأطباء وأحد الشباب في سن الطفولة، رحمهما الله هما ومن قبلهما، وهو أمر محزن وغير مقبول.
الأطباء أفراد هذه المهنة في هذا الوقت مطلوب المحافظة عليهم واستمالتهم لأداء مهمتهم، وأنا أقدر ذلك، إذ أن لي إخوة أطباء مثل الطبيب الشهيد، ولي أحفاد مثل الشاب الشهيد، ومن قبل كان لي ابن شهيد أعرف مقدار الحسرة والألم وأقدر حالة والدي الشهيدين، وأعرف المشاعر البشرية التي تعلو وتصل في مثل هذه الأحوال إلى درجة الانتقام والمناداة بإسقاط النظام، ولكن بعد الروية وهدوء النفس وزوال الغضب، تخبو تلك المشاعر احتساباً.
أيها الإخوة الأطباء لا تنسوا قسم مهنتكم في إنقاذ المرضى في الغضب والرضا، ولئن قتل الآخرون النفس فأنتم مطالبون بإحيائها (من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)، فكيف ترضى نفوسكم وبعلمكم وحنانكم أن تضربوا وتكفوا أيديكم وتمسكوا سماعاتكم ومشارطكم ألا تجروا عملية جراحية أو تنقذوا من أتاكم مريضاً أو حبلى من النساء فتحولوا دون استقبال وليدها، ولا صغيراً من الأطفال تحرموه معالجتكم وهو يبكي ألماً.
أيها الأطباء إنكم إن أضربتم ستكونون مثلهم تستوون في المسؤولية مع من مات بالرصاص أو مات بالإضراب والامتناع، ماذا تقولون لربكم حين يسأل كل واحد منكم لوحده، فلا نقابة ولا اتحاد ولا تجمع يدافع يومها (وكل أتوه يوم القيامة فردا) .
أيها الأطباء أنا مشاعري معكم، ولكن عقلي ليس معكم، ومع ذلك فهو مفتوح لسماع أي مطالب لكم أو لحل المشكلة القائمة في البلد، وهو أمر مشروع الحديث فيه للجميع لصالح الوطن (فلا ضرر ولا ضرار)، حتى نجتاز هذه المرحلة القاسية الصعبة معاً بالحوار لكل أطيافنا السياسية بالكلمة الطيبة دون استفزاز أو استعلاء.
بالأمس بعد صلاة الجمعة، في المسجد بحي الرياض، وبعد هتافات احتجاج داخله وخارجه استوقفني بعض جماهير المصلين ساخطين محتجين فأحاطوا بي ووقفت في وسطهم وسمعت لهم مؤيداً احتجاجاتهم، فلا خير فينا إن لم نسمعها منهم، ولا خير فيهم إن لم يقولوها، نددوا بقسوة القمع وزيادة عدد القتلى ومداهمة البيوت والقذف بمسيل الدموع داخل المنازل، وقلت لهم إنه أمر منكر ومرفوض وكان يمكن التعامل معها كما حدث في بعض المواقع حين أحسنت الأجهزة المعاملة وانفض المتظاهرون دون خسائر، وهو ما ينبغي أن يحدث طبقاً للقانون والدستور.
طلبوا مني أن نراجع نحن المؤتمر الشعبي موقفنا وسياساتنا للخروج من هذه الحكومة، فرددت عليهم بأن دخولنا في الحكومة كان بمقتضى ما اتفقنا عليه نحن أحزاب الحوار التي كانت أكثر من سبعين حزباً وحركة، وبمقتضى مخرجاته شاركنا وقامت حكومة الوفاق الوطني لتنفيذ تلك المخرجات، وهو عهد نلتزم به في السراء والضراء وحين البأس، ولكن مع ذلك سنظل نتابع توصيات الحوار وننقل مشاعركم وآراءكم ونسعى لتصحيح كل خطأ في كل موقف ومحاسبة كل مسؤول نهب المال العام في أي جهاز وفي أي موقع، فنحن على عهدنا ووعدنا مع الله، ومع الجماهير بالوقوف مع الحق والحرية والعدل، فكبروا وكبرت معهم وانفضوا.
والله المستعان،،
إبراهيم محمد السنوسي
رئيس هيئة شورى المؤتمر الشعبي