هدير المتجمهرين بتوقيت الخرطوم الآن، يعيد عقارب الساعة لأزمنة ساحقة هي كلاكيت لما بعد فترتي حكم الفريق “عبود” والمشير “سوار الدهب” رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته، فكلاهما عسكريان وكان النجاح حليفهما، لأن إدارة الدولة آنذاك أسندت للقيادة العامة للجيش، ولكن كان للأحزاب رأي سياسي عقيم حين تم إيهام الشارع السوداني بنجاعة إدارة شؤونه عبر الديمقراطية، فقام المشير “سوار الدهب” رحمه الله، بتسليم السلطة لهم، ومع مجيء حكومة الإنقاذ لاح في الأفق ما يشي بانفراج الأزمة التي أحدثتها الحكومة الحزبية، ولكن تورطت الإنقاذ بجلبها للأحزاب مرة أخرى، ومع الأحزاب القديمة دوماً لا يأتي سوى الخراب، وها هو هدير المتجمهرين يعيدني إلى سماع ذات الأسطوانة المشروخة منذ أكثر من (50) عاماً انقضت ما بين حقبة رئاسية وأخرى!
إنني أتساءل: إذا ما سقطت الدولة الحالية، هل سيقف السودان على قدميه شامخاً يسير دونما عثرات وأحجار غاضبة يقذفها المتجمهرون، ليس في وجه الشرطة ورجال الأمن فحسب، بل لتعكير صفاء نيله وصناعة الدوائر المفرغة فيه بدون أن توضع الأسس المتينة لدولة المؤسسات، والرئيس هو رئيس الوطن كله وليس رئيس حزب،
علينا قبل كل شيء أن يتحمل البرلمان الحالي ومجلس الوزراء الاتحادي والولايات، لأنه من غير المنطق أن نبني مرحلة جديدة على أنقاض مرحلة بالية، ولأنني أشرت مطلع مقالتي هذه إلى الحقب الرئاسية، فجدير بقلمي أن يشبع هذا الجانب من خلال نظرتي الإستراتيجية لمستقبل السودان، فإذا ما أردنا وضع هذا المستقبل أمانة في عنق الانتخاب الرئاسي والبرلماني، فإنني أهمس أولاً في أذن صناديق الاقتراع ألا تسمع صوتاً كالطبل خاوٍ من رؤية مستقبلية تضع النقاط على حروف ما تقتضيه ظروف المرحلة القادمة، خاصة وأن الشعب قد ملّ وهو يقف طويلاً يطرق أبواباَ لا تُفتح!
إنني أناشد الأحزاب المهووسة بالسلطة إذا ما أرادوا عقد صداقة حميمة مع صناديق الاقتراع، أن يتسلحوا بالتكنوقراط المتخصصين بعيداً عن الحبة السوداء وزعفران المراحل السابقة التي صنعت ساسةً من الوصفات الشعبية وخلطات العطارين!
إن من يريد قيادة السودان في المرحلة القادمة بمواصفات الألفية الجديدة، عليه أن يضع دولة المؤسسات نصب عينيه دون الوقوع في فخ الجهوية والقبلية والحزبية التي قارب عددها أعضاء الأمم المتحدة، وأن يقدم ملفاً تنموياً للمفوضية العليا للانتخابات التي لها صلاحيات قبول ملفات الترشيح من الأحزاب وتخفيض عددها إلى (4) أحزاب فقط، وفق معايير ولوائح صارمة جداً، التي قارب عددها عدد أعضاء الأمم المتحدة الذي بلغ (193) عضواً، وتمحيصها قبل الدخول معترك سباق الرئاسة والبرلمان الذي أرى أن لا يزيد على (150) نائباً، منهم هيئة من (30) شخصاً من الخبراء والمختصين لمراقبة الأداء المالي للدولة، وسن اللوائح والقوانين وتعديل الدستور، وهذه الهيئة لا يتوقف عملها عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى تقييم أداء عمل الحكومة بمحاسبتها على برامجها ومشروعاتها التنموية التي وعدت بها الشعب، إضافة إلى ذلك يتم انتخاب الرئيس والبرلمان السوداني كل (4) سنوات وإعادتها كل سنتين لدورة واحدة فقط حتى تسير دولة المؤسسات كما ينبغي وكما يليق بوطن كبير كان يطلق عليه سلة الغذاء، فأصبح مفرغاً من خيراته بفعل السياسات الحزبية المرتبكة التي استبعدت عقول أساتذة الجامعات والعلماء والأدباء والاقتصاديين والمهندسين ورجال القانون والمحامين والحرفيين الذين هم في هجرة جماعية فرضت عليهم، فيما الحزبيون يشكلون تاريخ السودان ويصنعون من خطاباتهم وعوداً خاوية.. أين كنا.. وكيف أصبحنا.. وإلى أين نسير.