لماذا أمسكت الدول العربية يدها عن السودان في محنته؟؟
ثلاثة أسباب وراء تفاقم الأوضاع الاقتصادية
حديث السبت – يوسف عبد المنان
بعد انقشاع غمة الاحتجاجات وعودة الاستقرار
انقشعت غمة الاحتجاجات التي شهدتها البلاد خلال الأسبوعين الماضيين وعاد الهدوء لمعظم المدن السودانية بعد زوال أسباب الاحتجاجات جزئياً، بنجاح الحكومة في توفير الخبز الذي تضاعفت أرقام الدعم الحكومي ليبلغ (680) جنيهاً للجوال الواحد.. وانسياب البنزين طبيعياً.. مع استمرار شح الجازولين وشحّ السيولة التي أعلنت الحكومة عن توفيرها بحلول أبريل القادم، وهي مدة قصيرة (90) يوماً بعد أن صبر الشعب على شح السيولة لأكثر من (360) يوماً.. وبعد انقشاع (أزمة) الاحتجاجات التي تمثل أكبر معضلة واجهتها الإنقاذ خلال ثلاثين عاماً إلا قليلاً، فإن الحكومات (تعتبر) من دروس الأزمات وتستفيد من تجاربها وتعيد حساباتها السياسية بما يحقق أهدافها.. وقد كشفت الأزمة التي كادت أن تعصف باستقرار البلاد عن حاجة الحكومة لمراجعات كبيرة لسياساتها ولتكليفاتها.. وخططها وخطابها السياسي.. وتنسيق الأداء ومراجعة تعييناتها في مناصب الوزراء والولاة.. وجرد حساب لتحالفاتها السياسية.. وإذا كانت الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في سبتمبر 2013م قد استمرت لمدة يومين فقط أوقعت خسائر فادحة في الممتلكات والأرواح واتسمت تلك الاحتجاجات بالعنف والتخريب، فإن احتجاجات ديسمبر 2018م، باستثناء العنف في مدن عطبرة والقضارف وربك والرهد ومحلية صغيرة قصية بجنوب كردفان اسمها (الترتر) راحت أخبارها في (الأرجل)، فإن الاحتجاجات في الخرطوم اتسمت بالسلمية، ولم يجنح المتظاهرون للتخريب والعنف.. في ذات الوقت اتسم أداء القوات النظامية التي أسند إليها تأمين المنشآت الحكومية ومكافحة أعمال الشغب وهي القوات المسلحة، وجهاز الأمن والشرطة، اتسم أداؤها بالانضباط السلوكي الصارم والأداء المهني لقوات محترفة ولم تحدث خروقات منها.. حتى المتظاهرين لم يتعرضوا لها بالرشق بالحجارة.. أما قوات الدعم السريع فقد كانت على قدر رهان الرئيس عليها.. ومثلت سنداً حقيقياً ومنذ خطاب الفريق “حميدتي” في منطقة أبو حراز جنوب الخرطوم الذي وجد صدى واسعاً في الرأي العام، بددت قوات الدعم السريع شكوك البعض.. وكان قادتها على قدر المسؤولية التي أسندت إليهم.. والرئيس “عمر البشير” لم يخب رهانه على القوات النظامية التي استطاعت حفظ الأمن وتأمين ظهر النظام وحمايته وأثبت قادتها “أولاد دقلو” الفريق “محمد حمدان” واللواء “عبد الرحيم” إخلاصهما وولائهما للرئيس “البشير”.. وحرصهما على النظام أكثر من بعض الذين يدعون أنهم ملاكه بشهادة بحث ختمها “الترابي” قبل محنة انشقاق الرابع من رمضان.. وإذا كانت (أحداث سبتمبر) قد وضعت البلاد على أعتاب مرحلة جديدة، فإن الأزمة الاقتصادية التي هددت استقرار البلاد لها أسبابها التراكيمة منذ سنوات طويلة.. ولها أسبابها الظرفية وقد أفرزت سلبيات عديدة لمسار تجربة السنين الماضية في هذه الأزمة التي انفرجت نسبياً الآن.
{ التسوية الغائبة
سنوات طويلة وأصوات الاعتدال داخل المؤتمر الوطني وخارجه تنادي بتسوية النزاعات المسلحة في المنطقتين ودارفور.. عشرات السنين والأقلام تكتب عن فريضة التسوية لحفظ النفس الغالية، وصون كرامة الإنسان النازح.. وتجنيب ما تبقى من الوطن خطر التقسيم والتصدع.. والخوف من بلوغ البلاد مرحلة نضوب الموارد وجدب الخزانة العامة.. بسبب تبعات الحرب المباشرة من إنفاق عسكري، وإهدار للمال في الاستعداد للقتال، وتبعات الحرب غير المباشرة من خروج مناطق النزاعات من دائرة الإنتاج، والتواترات الإقليمية كالحرب في الجنوب.. ويوم أن وقف الدكتور “مطرف صديق النميري” وهو سياسي عميق الرؤية، وضابط أمن سابق لا تنقصه المعرفة بأسرار النزاعات، وقف مطالباً حكومته بتسوية نزاعها مع جارتها من جهة الجنوب (جوبا) وفتح الحدود والمعابر والكف عن سياسة الأذى المتبادل، فقد وظيفته كسفير لبلاده في جوبا.. ولكنه لم يفقد احترام الرأي العام لرؤيته الثاقبة.. وعندما قدم د. “عمر سليمان آدم” استقالته واعتذر عن رئاسة وفد التفاوض بشأن النزاع في المنطقتين لم يصغ لرؤيته أحد، بل سارع صُنّاع القرار لإسناد ملف المفاوضات لغيره من القيادات.. وأهدرت النخبة الحاكمة في مفاوضات السلام 1997م، في أديس أبابا فرصة أن يبقى السودان موحداً برفض الرؤية التي قدمتها الحركة الشعبية بـ(كونفدرالية) بين الشمال والجنوب، على أن يحظى الجنوب بحكم ذاتي.. فانشغلت الساحة بخارطة الحدود أكثر من انشغالها بجوهر الرؤية والأطروحة.. وحينما وقع د.”نافع علي نافع” مع “مالك عقار” اتفاق مبادئ لحل النزاع في المنطقتين قبل نشوب الحرب الأخيرة، تم إجهاض ذلك الاتفاق من داخل أجهزة المؤتمر الوطني بالتفاف بعض القيادات حول الرئيس، وفي حرب الأجنحة ومراكز القوى تم قتل الاتفاق ولم يشأ د.”نافع علي نافع” الدفاع عنه، حتى داخل اجتماعات المكتب القيادي (انحنى) للعاصفة وضحى بسمعته وصورته الشخصية (كرجل النظام القوي) حفاظاً على تماسك الحزب وخوفاً من تصدعه وانقسامه، وقد شكل الخوف من الإنقاذ بعد ذلك مبرراً للتخلي عن كثير من القناعات الذاتية لبعض الأفراد.. ومنذ ذلك الحين ظلت جهود التسوية حول المنطقتين لا تعدو جلسات العلاقات العامة التي لا تخاطب قضية الحرب في المنطقتين ودارفور.. وحتى بعد التوقيع على اتفاق خارطة الطريق في أديس أبابا التي فتحت أبواب التسوية، كان الخلاف الذي أدى لاستمرار الاستنزاف مثيراً للسخرية، هل تأتي المساعدات للمحتاجين من الداخل أم من الخارج؟ فقصمت القضية الإنسانية ظهر جهود التسوية في المنطقتين.. أما الخلاف في دارفور فهو يعكس بقدر كبير استهانة المفاوض الحكومي بالأوضاع على الأرض وما يترتب عليها من آثار سياسية واستنزاف اقتصادي على المدى البعيد، وحتى بعد إعلان وقف إطلاق النار لم يتغير حجم الصرف اليومي على تلك المناطق.. وبدأت أسفار المفاوضين بين العواصم مصدر كسب وثراء، وشيدت بيوت وتمددت عمارات سامقة بدولار نثريات التفاوض من الدوحة حتى أبوجا.. لكن الدولة حصدت الفقر وخواء الخزانة العامة من المال والعجز عن توفير الدواء للمرضى والخبز للجوعى.
{ ملف البترول وإهدار الثروات
في يوم ما طلب السودان من منظمة الأوبك اعتماده كمراقب بعد أن تجاوز إنتاجه اليومي الخمسمائة ألف برميل في اليوم، بفضل السلام في الجنوب واستقرار حقول البترول في هجليج ودفرا والفولة وحقول عدارييل في أعالي النيل.. وحصدت الدولة مليارات الدولارات، ولكن أين ذهبت أموال البترول؟ حتى الحركة الشعبية بعد أن وقّعت اتفاق السلام وأضحت شريكاً رئيساً في الحكم لم تُتح لها معرفة تفاصيل عقودات البترول ونصيب السودان الحقيقي.. وتسبب البترول في فصل جنوب السودان بإجماع الجنوبيين من جهة، و(أنانية) بعض المسؤولين، وتسببت في قسمة الوزارات في أول خلاف بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وبعد أن اتفق “علي عثمان” و”جون قرنق” على اقتسام وزارتي المالية والطاقة والتعدين، وبات ذلك الاتفاق ملزماً حاول المؤتمر الوطني التنصل من ذلك والاستئثار بوزارتي المالية والطاقة والتعدين في ذات الوقت.. ولكن “علي عثمان محمد طه” وحينها كان صاحب كلمة (مسموعة) منح الجنوبيين وزارة الطاقة، التي كانت تتصرف في مال البترول بما يمليه عليها ضميرها.. ولا رقابة على مال البترول الذي بح صوت الدكتور “عبد الوهاب عثمان” الشهير بـ(بادي أبو شلوخ) عليه الرحمة، وهو يطالب بتخصيص عائدات البترول في تطوير الزراعة والطرق بدلاً عن البنايات الزجاجية والمشاريع غير ذات الجدوى الاقتصادية، فأهدرت المليارات في مشاريع مثل السدود بتكلفة عالية جداً.. ومشروع مثل سكر النيل الأبيض الذي يمثل وصمة عار في جبين الذين أبرموا التعاقدات مع الشركات الأجنبية لاستيراد المعدات، وبلغ الحرج حتى الرئيس يوم افتتاحه.. وظل المشروع حتى اليوم شاهداً على الفساد في الدولة وإهدار المال العام.. وكل من يتحدث عن الفساد في الدولة فهو متهم عندها بسوء النية.. وكل من يدعو لمحاربة الفساد ويشير لتكاثره يُطالَب بإثباته وتقديم البينة حتى تتقصى السلطة.. فهل كان فساد مبيعات محالج القطن في ربك والجزيرة يحتاج إلى أدلة وبينات؟ وهل كانت الأخطاء في مشروعات حصاد المياه خافية على أحد؟ حتى قال الرئيس كلمته.. وأشار إلى القطط السمان التي (أكلت) مال الدولة فهبّ الناس يرددون خلف الرئيس (القطط السمان.. القطط السمان).. وإهدار أموال البترول في المشروعات الفاشلة وغياب الرقابة الحكومية وغياب الرقابة الشعبية ساهم بقدر كبير في تبديد هذه الثروة، حتى تدهور الإنتاج ونضبت آبار البترول وأمسكت دولة الصين عن تطوير التكنولوجيا التي استخدمتها في استخراج البترول السوداني.
{ ما بين المعسكرين!!
بعد انفصال الجنوب وذهابه لسبيله ظلت دولة قطر تقدم القروض الميسرة والدعم غير المشروط للخرطوم.. وأوفى أمير دولة قطر السابق وأميرها الحالي بحق العروبة والإسلام.. وهو وحده من أمراء الخليج زار السودان لعدة مرات، واحتضن مفاوضات السلام لفصائل دارفور، ودعا المانحين للوقوف سنداً مع السودان.. وتقف قرى العودة الطوعية التي شيدت بالمال القطري شاهداً على فضل الدوحة، ولكن متغيرات السياسة والخلافات التي نشبت في منطقة الخليج دفع ثمنها السودان مع أن السودان لا ناقة له ولا بعير في خلافات الخليجيين، ولكن دولتنا تعاني منذ سنوات طويلة من غياب المؤسسات وسطوة مراكز القوى التي تبحث دوماً عن قرب من مركز صناعة القرار في الدولة.. ومدّ مدير مكتب الرئيس السابق جسور التواصل مع دولتي الإمارات والسعودية، واستطاع (إقناع) القيادة العليا بضرورة قطع وشائج الصلات مع دولة إيران والدخول في حرب اليمن إلى جانب السعودية والإمارات، وهذا الموقف أثار حفيظة الدوحة التي تقف إلى جانب إيران وبعيدة عن (تحالف اليمن).. ورغم الدم السوداني الذي ينزف في اليمن، وقفت السعودية والإمارات موقف الشامت على السودان والجاحد، ولم تمد كلا الدولتين يدها لحليف مخلص.. وينتاب هاتان الدولتان إحساس كاذب وتقدير خاطئ لما يحدث في السودان، وبعض الدول العربية تغذيها مخابراتها بمعلومات تفتقر إلى الدقة بأن الوضع في السودان على حافة السقوط وتلك أمنيات بعيدة عن الواقع.
{ ماذا بعد؟!
انقشعت الأزمة التي أدت للاحتجاجات الآن وما تبقى تظاهرات سياسية لتيارات يسارية محدودة تسعى لإسقاط النظام واستئصال التيار الإسلامي من الوجود نهائياً.. ولم يرق حتى لحزب الأمة المعارض وبعض جيوب الاتحادي الديمقراطي الخطاب الإقصائي لليسار الناشط في التظاهرات باسم المهنيين، ولكن هذه التظاهرات أخذت في الاضمحلال وانصرف الناس عنها بعد أن توفر الخبز والوقود.. وأعلنت الحكومة حل أزمة السيولة خلال أيام.
واستدامة وجود الخبز وتحسن إمداد الجازولين وتوفير احتياجات المواطنين من السيولة وهي احتياجات لا تتجاوز العشرين مليار جنيه في اليوم، وكذلك تعامل السلطات مع كل حالة بقدرها دون تهويل وتكبير للأحداث الصغيرة، من شأن كل ذلك المساهمة في استدامة الاستقرار وانفضاض التظاهرات تلقائياً دون حاجة لإعلان حالة الطوارئ.. والإعلام الدولي الذي صوب عدساته على السودان سرعان ما سينصرف إلى مناطق بؤر نزاعات أخرى.. لكن عودة صفوف الخبز والبنزين هو الخطر الماحق على الاستقرار، لأن الوقود الحقيقي للتظاهرات هم المواطنون غير المسيسين، المطالبون فقط بضروريات الحياة اليومية.