فريق العمايا الأم درماني .. من هنا رفع علم السودان !!
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث
و«أبو العلاء المعري» لم ييأس بعد أن ذهب الجدري ببصره، فتوج نفسه ملكاً ضريراً رغم أنه ظل رهين محابس ثلاثة، و»طه حُسين» عبأ بصيرته من فيض أنوار «المعري» فبلغ شأوا ما توفر لمُبصر، والعالم الآن يحوي حوالي (180) مليون كفيف، قدموا للبشرية ما يستحق أن ترفع له القبعات وتنزع له العمائم المثبتة على الرؤوس.
«هلين كلير» امرأة تحمل ثلاث إعاقات (الصمم والخرس وكف البصر)، لكن ذلك لم يمنعها أن تصير رمزاً من رموز الأدب، وقبلها كان الكفيف الشاعر «بشار بن بُرد»، ألف (اثنتا عشر ألف) قصيدة، وكان عاشقاً بارزاً ببصيرته وليس بصره، أوليس هو القائل؟
إن العيون التي في طرفها حور .. قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة .. والأذن تعشق قبل العين أحيانا
} منزل الفنان «بادي محمد الطيب»
نحن الآن في العباسية غرب، في (فريق العمايا) الذي يقع بين ميدان الربيع وشارع الأربعين، زقاق ضيِّق، أشار نحوها «حيدر آدم» قائلاً: (دا فريق العمايا)، فولجنا نسأل ونستقصي ونحاول التوثيق ما استطعنا.
في الزقاق الضيق، طرقنا قليلاً على باب منزل يحمل لافتة مكتوب عليها (بادي محمد الطيب)، لم تمضِ ثوانٍ حتى خرج إلينا «محمد محيي الدين»، فسألناه عما إذا كان هذا هو منزل المرحوم الفنان الشهير «بادي محمد الطيب» أم محض تشابه أسماء، فأكد لنا أنه منزله بالفعل، واشتراه له ابن أخته في ستينيات القرن المنصرم، دلفنا إلى داخل المنزل لنتحدث مع «محمد محيي الدين» عن (فريق العمايا)، لكنا فوجئنا إنه لا يعلم حتى أن البيت الذي يقطنه يقع ضمن هذا الحي.
} شق العصا
في بيت (ناس على الله)، أحد أعرق الأسر في فريق العمايا، جلسنا إلى «عصمت» الذي تحدث عن خلفية تسمية الفريق بالعمايا، فقال: كان هناك عدد هائل من العُمْيان يسكنون هذا الحي (نسوان، رجال، شباب وأطفال)، كانوا يخرجون من بيوتهم في الصباح على شكل مجموعات، كل مجموعة ممسكة بـ(عصا)، متجهين إلى السوق للتسول، ولوجود هذا العدد من (العمايا) في الحي أطلق عليه الناس (فريق العمايا).
ويضيف «عصمت»: بعض أسر العمايا لديهم أملاك، وكان بعضهم (مؤجرين) وما زال بعض أولادهم وأحفادهم يعيشون هنا، حلتنا أنجبت (فاروق أبو عيسى، صلاح وفاطمة أحمد إبراهيم، والسر (سواق إسماعيل الأزهري)، سعاد الفاتح البدوي، الجاك بخيت، نعمات مالك، زوجة عبد الخالق محجوب، خليفة جلي، أسرة الشيخ الريح، الشيخ إسحاق، الشيخ حمد الني)، ويستطرد « عصمت»: يمتد (فريق العمايا) من محطة (عابدين) إلى الإدارة المركزية (الكهرباء)، ويضيف: من أهم الأسواق التي كان يقصدها العمايا آنذاك، سوق أم سويقو شمال العباسية، ويسمى أيضاً بـ(سوق العمايا).
} قسم بمحيك البدري
وفجأة يشرد «عصمت» بعيداً، كأنما يحاول استدعاء تفاصيل قديمة من قاع ذاكرته، ثم يقول فجأة: آه تذكرت شخصاً مهماً هو الفنان «الفاضل أحمد»، لقد كان فناناً رائعاً ومجيداً، وهو صاحب أغنية (قسم بمحيك البدري) التي غناها «وردي» لاحقاً، وأضاف «عصمت»: هذه الأغنية مسجلة في الإذاعة بصوت الفنان «الفاضل أحمد» (ود فريق العمايا)، ومضى قائلاً: حتى (عائشة الفلاتية، فاطمة الحاج، وفاطمة خميس فنانة التم تم الشهيرة)، كلهن سكن فريق العمايا، ومن الشعراء (خليفة أبو قرون وجعفر فضل المولى)، ومن أشهر فناني (الفريق) «فيصل الخير» صاحب الأغنية المايوية الشهيرة:
ثورة مايو البايعناها على الموت عاهدناها.. البيعة البيعة جددناها
يواصل «عصمت»: «محمود تاور» ذاتو مننا، وأنا القدامك دا فنان وأول زول غنيت أغنية «محمود فلاح» الشهيرة (حبيبي سافر وجا) ومسجلة بصوتي في الإذاعة، قال قوله هذا وشرع يوقع على فخذيه ويغني مقطعاً منها بصوت جميل، قبل أن يمضي قدماً إلى لاعبي كرة القدم ويحصيهم عدداً قائلاً: (جكسا مننا، قول واحد، و«عبد الله عباس» بتاع المريخ، نصر جبارة (الموردة)، عبد العزيز عبد الله (حارس المريخ والزمالك)، يونس الله جابو، سامي جورنان، إسماعيل عيساوي، وعيسى دهب).
ظرفاء ونساء (أقوياء)
بدا «عصمت» وهو يودعني محتشداً بالذكريات حد الانفجار حتى أنه انتهز فرصة (وقوفي معه خشم الباب) ليصف لي بدقة موقع حوش ناس «الصافي» أشهر حوش في (ناصية الزقاق)، فقرعت بابه ولم يرد أحد، ثم توجهت إلى حوش ناس الرومي، فكان في استقبالي «الفاضل وحسن الرومي» اللذان تحدثا عن (العمايا) بحب، فلم يوفرا في حكاياتهما حتى التفاصيل الدقيقة، وفي ذلك يقول «الفاضل»: من أشهر أسر العمايا، أسرة «حاج أحمد» التي منها فنان الحقيبة الشهير «الفاضل أحمد»، وأسرة «شيخ إدريس»، و«عبد الفقرا»، ثم يواصل: بيت العمايا الذي سُمي عليه (الفريق) اشتراه مهندس اسمه «إبراهيم حامد»، وأضاف: من أقدم أسر الفريق ناس «الريح العيدروس» المُنجم الشهير، وآل التاجر «حامد أبو جبل»، و«عبد اللطيف نصر» صاحب أكبر متحف للعملات، وناس «جعفر محمد سليمان»، وأسرة «حمد النيل عبد الرحمن»، و«فضل الله» والد «عوض الكريم فضل الله».
لكن «حسن الرومي» أكد أن الفريق كان يضم إلى جانب الفنانين والرياضيين مجموعة من الظرفاء مثل (الدقيل حاج أحمد، أمين عبد الجليل، وتوتو)، كما كان يضم (نسوان) ليهن شنة ورنة، وكلمتهن مسموعة، وشخصياتهن قوية وطاغية مثل «آمنة محمد، فاطمة بت أحمد، بخيتة، وبلقيس).
} رفعنا علم الاستقلال على سارية القصر
وفي السياق يقول السيد «حسين آدم»: بالنسبة لي أهم شخصيات الحي هو «الجاك بخيت» رحمه الله، الآن رحلت أسرته إلى( بانت)، وهو أول من رفع علم السودان، إلى جانب «موسى ونيس» مسؤول السينما الوطنية أم درمان، و»حاج أحمد» كبير العمايا، إضافة إلى «أحمد الحدادي» وكان أشهر الحدادين ونافخي الكير آنذاك، وأضاف: كان العمايا يعودون بنقود كثيرة من السوق عند غروب الشمس، وكانوا يشترون السجاير، ويعملوا (حلة كاربة) دون أن يحتاجوا مساعدة من أحد.