الأرقام في تزايد والمجلس الطبي في خط الدفاع (2)
قصص تزج بك في بحر الأسى، لأنها تفتح عينيك على واقع أليم يتربص بأبرياء لا حيلة لهم ولا مقدرة، لأن ما لديهم من هموم تكفيهم، لكن تأبى أيادي الإهمال إلا أن تطالهم لتجد لهم حيزاً في هالتها ليحملوا فيما بعد لقب الضحايا، ويظلون يعانون مرارات عديدة بدءاً بالإهمال وانتهاء بتجاهل حقوقهم، حيث يؤكد معظم الذين ينضوون تحت تلك القوائم بعد ما توجهوا إلى (المجلس الطبي السوداني)، أنهم أُجلسوا في مقعد المتهمين بدلاً عن مقعد طالبي الإنصاف! كان لزاماً علينا أن نعثر على إفادة من (المجلس الطبي) الذي يمثل الطرف الآخر، والذي ينضوي مسببو الأذى تحت مظلته.
من كي لي كي..
في الحلقة الأولى من هذا التحقيق، توقفنا مع السيدة “أم سلمة محمد عبد القادر” في محطات معاناتها المختلفة، وتوقفنا في سرد ما جرى لها عند طلب طبيبها المعالج الذي لجأت إليه بعد أن تدهورت حالتها بعمل رنين مغنطيسي، ففعلت، وكشف ذلك وجود إلتصاقات في الأمعاء الدقيقة نتيجة عملية تكيس في المبيض، مما دعاه لاستئصال المرارة، إلا أن ذلك لم يوقف نوبات الألم، وهكذا أصبحت النتيجة مأساوية أمام ناظريها وأسرتها بعد فقدها لعضوين (الرحم والمرارة)، وصارت حياتها مرتبطة بتناول المسكنات. بعدها ترددت على طبيب آخر إجتهد في تحليل ماهية المرض، وأخبرها أنها تعاني من سرطان في المبيض، وتسبب ذلك في بث الذعر داخل نفسها، فصرفت كل أموالها التي جمعتها من بيع أثاثات منزلها لترافق زوجها في رحلة إلى دولة مجاورة طلباً للاستشفاء، وهناك اكتشفت أنها سليمة تماماً من ذلك المرض، فعادت أدراجها. لكن كانت مساحات أخرى من الألم تنتظر أن تتمدد في دواخلها، فذهبت ثانية إلى المستشفى التابع للشرطة، وبعد أن أُدخلت غرفة العمليات لإجراء استكشاف، اكتشف الطبيب وجود شاش بحجم عشرين سنتمتر مربع داخل بطنها بنى عليه اللحم، وقطع الأمعاء الدقيقة والغليظة، فتم تحويلها إلى طبيبة اختصاصية.
إعدام الحقيقة..
بلغت الحالة الصحية للسيدة (أم سلمة)، مراحل متأخرة من الضعف والتدهور، حتى أن جاراتها هيأتها للدفن بعد اعتقادهن الجازم أنها فارقت الحياة، لكن يبدو أنه قد كُتب لها عمر جديد مازالت تعيشه إلى اليوم، حيث أنها الآن ممنوعة بتوصية الطبيب من تناول أي من أنواع الطعام عدا (الأرز المسلوق) و(زيت الزيتون) و(النارجيل)، وسبب لها ذلك عاهة مستديمة.
ومن بين فصول الاستهتار الذي تعرضت له، أنها فقدت ملف حالتها الصحية في أحد المستشفيات، وبعد تقدمها بشكوى إلى المجلس الطبي في السابع عشر من مايو من العام الماضي، تم الاستماع إلى الطبيب الذي أجرى العملية الأولى في وحدته بأحد المستشفيات التعليمية الكبيرة، أوضح أنه لم يقم بإجراء العملية، إنما أجراها نائبه، ولم يقف عند ذلك الحد، بل واصل إفادته بقوله: (كونو ننسى شاش عادي مافي زول ما بنسى، لكن يستأصلوا الرحم غلطانين كانوا يوروها)، وأكد أنه لم يكن على علم بما يدور في وحدته فيما يتعلق بإزالة الرحم، وزاد حديثاً أخطر من ذلك بقوله صراحة إنه لا يمكن أن تكون لديه عملية في مستوصف بستة ملايين، ويأتي إلى مستشفى حكومي ليجري عملية بسعر رمزي، وهكذا أقر بالإهمال في وجود اللجنة. لكن رغم ذلك مازالت القضية دون فصل إلى اليوم، ورفض المستشفى تمليك المجلس الطبي الملف الذي يوضح حالتها الصحية، كما أنه لم يتم إعطاؤها تقريراً بحالتها، فرفعت الأمر إلى النائب العام الذي منحها إذناً بالمقاضاة، ومازالت قضيتها في دهاليز القضاء إلى يومنا هذا بفعل التراخي والتستر على الإهمال.
من (500) إلى (900) سيسي..
قصة أخرى اتخذت من الواقع، شاب يبلغ من العمر (21) عاماً، كان يعاني من وجود حصوة في الكلية فقط، توجه صوب أحد الأطباء المشهورين ليجري له عملية إستخراجها في السابع عشر من ديسمبر من العام الماضي بأحد المستشفيات الخاصة بالعمارات، دون أن يضع في باله أنه سيصبح أحد ضحايا الأخطاء الطبية، بعدما تم استخراج الحصوة، لم ينسِ الطبيب أن يدع ذكرى أليمة بقيت قابعة في دواخل الفتى وأهله بعد ما ترك جرحاً في الحالب ليصبح نازفاً باستمرار داخل حوض الكلية، مما أدى لاحتقانه وسحبه بدءاً بـ(خمسمائة سيسي) إلى أن وصلت الكمية إلى (تسعمائة سيسي)، فسبب له ذلك مضاعفات أثرت على صحته العامة، فأجريت له عملية أخرى لمعالجة المشكلة، وبرز إهمال الطبيب دون حجاب يستره بتوجهه سؤال لمريضه بقوله: (أنت أنا عملت ليك دعامة)؟!، ورغم تلك العملية، إلا أن معاناته مازالت تتزايد مع مشرق كل صباح جديد. توجه إلى المجلس الطبي السوداني وقدّم شكواه، لكن لم يتم إخطاره بأنه سيتم النظر فيها إلى الآن، فطرق باب وزارة الصحة لم تكن النتيجة أفضل من سابقاتها، فلم يجد بداً من طرق أبواب القضاء وتدوين بلاغ جنائي، وتوجهه إلى أحد المحامين ليواصل رحلة البحث عن حقه المسلوب.
دفاع مستميت..
حقائق عديدة بقيت بائنة متخذة من ملف الأخطاء الطبية ببلادنا موقعاً بارزاً أهمها، تقرير اللجنة الفنية التي تم تكوينها من الأمانة العامة للمستشارين بمجلس الوزراء رفعت في تقريرها ما يفيد وجود حالة إنكار عامة، وتجاهل من العاملين في الحقل الصحي، بجانب ثقافة دفاعية جماعية لحماية زملاء المهنة، وتقارير صادرة عن جهات أخرى وفقاً لدراسة علمية أجرتها (منظمة الصحة العالمية)، فإن الأخطاء الطبية في السودان تسببت في الإعاقة أو فقدان الحياة بنسبة (40%)، (86%) منها كان من الممكن تفاديها. حسبما يقول دكتور “الخاتم الياس” مستشار المجلس الطبي السوداني، فإن دورهم ينحصر في اتجاهين رئيسيين، هما حماية المواطنين وإرشاد الأطباء، وفيما يتعلق بالأخطاء الطبية، فإنها تقع في العالم كله، وفي الإقليم الذي تقع فيه بلادنا، ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية حسب قوله فإنه يقع كل عام ما يقارب الأربعة ملايين خطأ طبي، ومضى ليضيف أن المجلس يمارس دوره المتمثل في إرشاد الأطباء بإعتماد كليات الطب وتسجيل منسوبيه، وتلقي الشكاوى من المتضررين، بجانب مهام أخرى تصب في ذلك الاتجاه، ومضى دكتور “الخاتم” وهو يبرر الأخطاء التي يرتكبها عدد من منسوبيه، مشيراً إلى أن الدراسة التي أجرتها (منظمة الصحة العالمية) بالتعاون مع وزارة الصحة الاتحادية، كشفت أن (86%) من المرضى الذين يطرقون أبواب المستشفيات، يصبحون ضحايا للأخطاء الطبية، وأن (13%) من مرتادي غرف العناية المكثفة يقعون ضحايا لها أيضاً.
تشخيص الأسباب..
الأخطاء الطبية، ظلت في تزايد مستمر خلال الفترة الماضية، مما جعل الكثيرين يرددون عبارات عديدة تسخر من الوضع الطبي الراهن فيما يتعلق بذلك المحور، فما هي الأسباب يا ترى؟
محاولة تشخيص لما يجري أجراها الأستاذ المحامي “معاوية خضر الأمين” الذي تولى قضايا عديدة من تلك الشاكلة لعدد من موكليه، والذي جلست إليه (المجهر) فبدأ إفادته بالقول: إن حدوث حالات الأخطاء الطبية بتلك الكثافة، تؤكد الإهمال الشديد الذي يتمدد في بعض الحالات ليتحول إلى استهتار بحياة المرضى، بوقوع وفيات جراء تلك الأخطاء، محركاً مشرطه ليشخص ما يجري بقوله إن القانون لا يعطي المجلس الطبي فرصة لمحاسبة منسوبيه ليؤكدوا إدانة الطبيب، والسبب في ذلك عدم مقدرتهم على الوقوف أثناء العملية، ليعلموا ما إذا كان الإهمال واقعاً أم لا، وإثبات الإهمال يعتمد على شهادة من طبيب آخر تشير إلى وجوده. ومضى ليضيف أن (المجلس الطبي) مؤسسة لا تمتلك حيلة، وأن قانونها ضعيف، فهو لم يحقق آلية التحري، كما أن العقوبات ضعيفة تتفاوت بين التوبيخ والإنذار ولفت النظر، ولم يتم فصل طبيب سوي طبيب واحد بعد ما استعصى على المجلس جمع تفاصيل ما قام به بعد انتشارها بواسطة الصحف بارتكابه حالة جنائية كبيرة، وأن التحقيق الذي تجريه لا يرقى إلى مستوى الجريمة المرتكبة في الغالب أو المخالفة أو الأخطاء، وختم قوله إن ملاحقة المجلس للإنصاف في حالات الأخطاء الطبية لا تجدي، وأنه يمتلك مقترحاً يقضي بقيام نيابة خاصة يطلق عليها نيابة الأخطاء الطبية أو مخالفات المهن الطبية تتبع لوزارة العدل، وأن يخضع ذلك الجسم إلى قانون رادع يصل حد اعدام الأطباء في حالة الأخطاء الفادحة التي تؤدي إلى هلاك النفس بشكل مستفز، ليكونوا عظة لغيرهم من زملائهم، ولإعادة الثقة ثانية إلى نفوس المرضى. وعرض مقترحاً آخر سيشرع في تنفيذه عملياً خلال الفترة المقبلة، يقضي بتقديمه مذكرة للجنة التشريع بالمجلس الوطني ووزارة العدل إلى السيد رئيس الجمهورية، مطالباً فيها بحل (المجلس الطبي السوداني)، وإنشاء كيان أكبر منه يمتلك قانوناً ولوائح توفر له الإمكانات والقانون واللوائح، بحيث يتضمن القانون عقوبات صارمة تصل حد الإعدام.
إنعدام الثقة..
الواقع يؤكد أن الثقة كادت أن تفارق علاقة المريض بالطبيب، تلك المهنة الإنسانية التي يطلق على ممتهنوها ملائكة الرحمة، ليتبدل الحال إلى النقيض تماماً، وليتحسب الفرد كثيراً قبل أن يسلم أحدهم أعز ما يملك (روحه) إذا دعا الحال لتُجرى له عملية لم تستطع كل المحاولات إخراجه من دائرة حتمية إجرائها، حتى أن البعض ظل يردد مقولات تؤكد تردي العلاقة، وبين تلك المقولات أن العملية (ستجرى الساعة الثامنة، والدفن سيكون الساعة العاشرة)، ومع علمنا التام أن الأخطاء الطبية تمضي نحو التزايد في العالم بشكل عام، إلا أن ملاحظاتنا تؤكد أنها تتزايد في بلادنا بنسب تكاد تفوق حدود التصور، وما الحالات العديدة التي نقابلها، إلا دليلاً دامغاً على ذلك في ظل حبس المجلس الطبي الإحصائيات الحقيقية (التي يبدو أنها مخيفة) في أدراجه.
هذا التحقيق حاول الجوس في الأعماق، لكشف ما يدور في دهاليز الأخطاء الطبية بإعتبارها قضية حقيقية كبيرة ومؤثرة، فهل تتوقف وزارة الصحة الإتحادية لتنظر الأمر بعين الاعتبار وتعطيه ما يستحق من نقاش؟ بوضع الأمر على طاولة نقاش تقف على كل المقترحات المطروحة، وبينها بالطبع المقترح الذي دفع به الأستاذ المحامي “معاوية خضر الأمين” ليتنزل الأمر برداً وسلاماً على مجتمعنا ومرضانا.