هل يقود “البشير” المصالحة العربية من نافذة دمشق!!
غُيِّب الإعلام السوداني ونافح الصحافيون عن رئيسهم
حديث السبت – يوسف عبد المنان
المؤتمر الشعبي في الحكم.. حسابات الخسارة والربح!!
بعد مضي ما يقارب الأسبوع من الزيارة المفاجئة للرئيس “عمر البشير” للعاصمة السورية دمشق، لا تزال ردود الأفعال الغاضبة والمستحسنة للزيارة تسيطر على الفضاء الإعلامي العربي كحدث أثار زوبعة، وصرف النظر لو مؤقتاً عن حالة الاحتقان الداخلي التي اعترت البلاد في أعقاب تنامي الرفض الشعبي لشح ضرورات الحياة المعيشية في السودان من وقود وخبز.. وبعد الزيارة الصادمة لأطراف عديدة في المنطقة العربية والإسلامية انهالت السيوف والسكاكين الصدئة من أغمادها تنهش في ظهر “البشير” وتقطع لحمه، والرجل ظل لثلاثين عاماً يتعرض لتجنٍ من أصدقاء اليوم وأعداء الأمس معاً.. لم يتركوا صفة ذميمة في قاموس الهجاء العربي إلا وتم استدعاؤها على صفحات (الويب) وفي أبواق قنوات التلفزة التي ظلت منذ اندلاع الحرب في سوريا متحرفة لقتال أو متحيزة لفئة على حساب الأخرى.
نخوة بعض أبناء السودان من المعارضين دفعتهم لصد الهجوم على “البشير” في موقف وطني تستحق عليه أقلام بعض المعارضين الثناء والتقدير في زمنٍ بات فيه البعض يستحسن التجني والحط من قدر رموز البلاد، لا لشيء إلا لاختلافات وتقديرات السياسة.. أما الإعلام الوطني فقد غيب كالعادة ولم يعلم أحد بزيارة “البشير” إلى سوريا إلا بعد أن حطت الطائرة الروسية التي أقلته على مطار الخرطوم.. ومنذ سنوات تم إبعاد الإعلام الوطني من القصر الرئاسي وإقصاء الصحافة من مرافقة الرئيس داخلياً وخارجياً، حتى نقيب الصحافيين وصحف القصر والحزب الحاكم، كانت آخر من يعلم شيئاً عن أهم زيارة للرئيس “البشير” في أخريات العام الجاري.. فبعد دمشق، هل تكون الدوحة أو الرياض هي محطة “البشير” القادمة أم القاهرة أم أديس أبابا؟ فكل تلك العواصم قريبة من الزيارة أو بعيدة عنها.. وحالة الإرباك في المشهد الخارجي والداخلي.. جعلت “عزمي بشارة” أول نائب عربي في الكنيست الإسرائيلي يرفع سبابته في وجه “البشير” ويقول شيئاً من (جرابه) الشخصي لا جراب قطر التي تقف مع ثوار سوريا.. في الوقت الذي يقف حلفاء قطر من إيران إلى روسيا مع الرئيس “الأسد”.. و”عزمي بشارة” يصلي بلسان ويغني بلسان.. ويأكل بيده اليسرى ويصافح بيده اليمنى.. ووظيفته في قطر تملي عليه أو يعتقد ذلك أن يتولى مهام ضابط الإنذار المبكر.
واصطف في الداخل الإعلام الوطني منافحاً ومدافعاً عن خيارات الرئيس “البشير” التي مضى إليها بصورة مفاجئة، مثلما مضى من قبل في (دروب) تحالف العرب في اليمن ودخول السودان الحرب مع اليمن حتى قبل مصادقة البرلمان الوطني، كما تقول بذلك نصوص الدستور.. ثم المفاجأة الأخرى بإعلان مقاطعة إيران وسحب البعثة الدبلوماسية السودانية من إيران، وتجفيف المراكز الثقافية لدولة إيران في الخرطوم.. وحينها كاد مدير مكتب الرئيس “البشير” السابق “طه عثمان” أن يقول لإيران:
تاني وين تلقي المنابر والمعابر
والأهازيج والهتافات والبطر
ومنظر الملايين من أهل الجزيرة المروية الذين خرجوا في ذلك اليوم لاستقبال الرئيس الإيراني “علي هاشمي رفسنجاني” عند وصوله الخرطوم حاضر في مخيلة يوم قطع العلاقات السودانية الإيرانية.. وجاء مخاض دمشق العاصمة (الأموية) التي انتقلت إليها الخلافة من المدينة.. وشكل ذلك الانتقال لحظة فارقة في التاريخ الإسلامي.. قبل أن تتبدل الأيام وتذهب الخلافة إلى بغداد.. وانتقال مركز الدولة الإسلامية من المدينة إلى دمشق لم يجد الترحيب ولا الاستطياب من أهل الحجاز ونجد.. ومكة والمدينة.. وشعر القرشيون بزوال دولتهم التي تأسست منذ بيعة سيدنا “عثمان” رضي الله عنه بعد موت أمير المؤمنين “عمر بن الخطاب” مجروحاً بسهم سام، واختيار أمير المؤمنين أول لجنة تحكيم أو محكمين في التاريخ الإسلامي لترشيح أمير المؤمنين، وكان الصوت الراجح هو “عبد الله ابن عمر ابن الخطاب” برجاحة عقله.. وفقهه وحسن تدبيره.. وعمق نظرته.. وما كان من المحكمين أوس أو خزرج ولكن كانت الدولة الإسلامية مزدهرة في المدينة.. ودمشق منذ ذلك التاريخ البعيد ظلت حاضرة في كل الممالك.. والمشيخات.. والحكومات.. ومنها نبعت فكرة ومشروع القومية العربية قبل أن تتلقفه بغداد..والسؤال إذا كانت دمشق بهذا العمق الحاضر في قلب العرب، لماذا تركها العرب أرضاً ومسرحاً للقتال والعراك وتصفية (الحسابات)؟
وبعيداً عن نظرية “ابن خلدون” في حاكمية (المراكز) وهامشية الأطراف، وهي النظرية التي تكرس لمزاعم التفوق التاريخي لمراكز الرياض ودمشق وبغداد والقاهرة في زمانٍ مضى على الرباط وتونس والجزائر.. وصنعاء وحتى عمان في الأردن التي هاجر إليها أشراف مكة تقهقر دورها وانكفأت على نفسها، وعلى إسرائيل.. فهل تملك الخرطوم مقومات قيادة العرب؟ وإذا امتلكت الخرطوم كل الأسباب التي تجعلها قائدة للعرب هل يُسمح لها بالقيام بهذا الدور؟ وقد عرف عن العرب العنصرية والطبقية حتى انضمام اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي وُضعت في طريقه المتاريس وتلكأ الخليجيون في قبول طلب الرئيس السابق “علي عبد الله صالح” و(نعنتت) صحافة الخليج الصفراء والخضراء اليمن بـ(الفقير) وكأن الفقر عيباً في زمان العرب هذا!!
من حيث التأهيل يملك “البشير” الكفاءة الشخصية والتجربة الطويلة جداً في الحكم تسعفه للعب دور مفقود الآن في توحيد العرب وجمعهم بعد المتغيرات التي كادت أن تعصف بهم.. إلا أن السودان بواقعه الاقتصادي وجبهته الداخلية المنقسمة والمنشظية حد حمل السودانيين السلاح في وجه بعضهم البعض تجعل انتقال قيادة العرب إلى الخرطوم أمراً بالغ العسر إن لم يكن من رابع المستحيلات، والعرب طبقياً وتعالياً وتمايزاً لن يسمحوا لرجل من أفريقيا العربية بتوحيدهم حتى لو كان الملك “الحسن” من المغرب أو المشير “عبد الفتاح السيسي” من مصر، دعك من السودان الذي رفضت لبنان انضمامه لجامعة الدول العربية في موقف سجله التاريخ لدولة الطوائف والألسن المتعددة.. ومع رياح التغيير في المواقف وفرض الولايات المتحدة على دول التحالف إيقاف الحرب في اليمن وبدأت سرياً الاتصالات بين بلدان خليجية وسوريا.. وعودة بعض خطوط الطيران إلى دمشق، فإن الخرطوم لن تكسب مادياً من مبادرتها بكسر الحصار إلا أنها تكسب سياسياً.. خاصة وأن معلومات قد تواترت عن اتصالات جرت بين الرياض والخرطوم قبل زيارة “البشير” إلى سوريا.. ولكن السؤال هل تفتح دمشق أبواب عودة العلاقات السودانية الإيرانية في غضون الأيام القادمات؟
بالطبع الخرطوم خسرت كثيراً من تطرفها وردة فعلها (المبالغ فيها) إزاء إيران التي احتفظت أكثر الدول معها بتمثيل (منخفض) أو مرتفع غير مهم، لكن المهم لم تقطع البلدان العربية علاقاتها بإيران مثلما فعلت الخرطوم.. والتسوية التي (تطبخ) في السويد بين الحكومة اليمنية والمعارضة (الحوثيين) من شأنها إعادة رسم المشهد من جديد.. فهل يجد السودان نفسه في وسط (الدائرة) أم خارجها؟ ذلك ما سعى لتحقيقه الرئيس “البشير” من خلال زيارته إلى دمشق الأسبوع الماضي.
{ الشعبي وحساب السياسة
الربح والخسارة تعبيران يسودان في حركة الأسواق أكثر من تداولهما في فضاء السياسة .. ولكن لا ضير في استخدام كسب وخسارة، في سياق محاولة قراءة المتغيرات التي طرأت على حزب المؤتمر الشعبي أحد أكثر الأحزاب المعارضة فاعلية في أدائها قبل أن يصبح أحد أحزاب حكومة الوفاق الوطني.. وكسب الشعبي وخسائره الظرفية والمستقبلية الناجمة عن الخيارات التي أقبل عليها منذ سنوات حينما انتقل من حزب معارض بشراسة لاقتلاع نظام الحكم من جذوره إلى حزب (تربطه) وشائج عامة بحزب المؤتمر الوطني من خلال مقررات ووثائق الحوار الوطني.. ووشائج خاصة بالإسلاميين في المعسكرين الوطني والشعبي نسجها د.”حسن الترابي” بما عرف بمنظومة (القيم الخالقة) وهي رباط أشواق لإعادة إدماج الإسلاميين ولو معنوياً في تيار عريض فضفاض يتسع لغيرهم من الجماعات الإسلامية في الساحة.. والمؤتمر الشعبي الذي كان شرساً في معارضته مما جعل أغلب قادته يقبعون في السجون لسنوات طويلة.. ويقدم الحزب نفسه يومياً في الساحة من خلال وسائل الإعلام الداخلية والخارجية.. و(ينازع الوطني) حول أيهما أحق بصفة (الإسلاميين) وأيهما أكثر أصولية من الآخر.. انتقل الحزب الذي أعاد تقديم نفسه للشعب السوداني من جديد إلا أن أخطاء الإنقاذ الكبيرة والصغيرة ظلت تلاحقه، ولم يحقق فتحاً شعبياً كبيراً وهو في المعارضة.. وفشل في توحيد جماعات أخرى أقرب إليه من المؤتمر الوطني مثل جماعة أنصار السنّة المحمدية وحركة الإخوان المسلمين بمختلف تشظياتها واختلافاتها.. واقترب من قوى اليسار، ولكن ابتعد اليسار عنه لأسباب أيديولوجية وحسابات مرحلية.. وخسرت قوى المعارضة حزباً فاعلاً قادراً على قراءة أخوته في الطرف الآخر وكيف يفكرون، ووجود الشعبي في المعارضة وضع المؤتمر الوطني في مأزق الدفاع المستمر، وفي كرة القدم من يبالغ في الدفاع يتكبد الخسائر في آخر المطاف.. ولكن في بعض الأحيان يكسب المدافعون المعارك الكروية مثلما يفعل فريق العاصمة الأسبانية الثاني (أتلتيكو مدريد).. وقوة الشعبي في المعارضة تعود لقدرته على المخاطبة والتغلغل في المناطق الدافئة وضرب البعير في مؤخرته (الرخوة).. وبدهاء القائد المتمرس نجح الرئيس “عمر البشير” في جلب الشعبي من بيت الأفاعي إلى أحضان “الأسد” وترويضه بالحوار الوطني وتقزيم وجوده وتكسير أجنحته التي كان يحلق بها في الفضاء.. ومع ذلك تعلقت الآمال بقدرات الدكتور “علي الحاج” وعلاقاته بأطياف المعارضة، خاصة القوى التي تحمل السلاح (بإقناعها) بالعودة إلى الداخل وفك ارتباطها بالبندقية، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث وتباعدت المسافة بين الشعبي وفصائل المعارضة وبددت شمس أبريل غيوم الخريف الكاذب، بأن هناك تحالفاً بين الشعبي وحركة العدل والمساواة التي تمنعت عن العودة.. ولم يقدم الشعبي الجهد المنتظر في إقناع حاملي السلاح بالتوافق مع نظام أصبح الشعبي جزءً منه.
وتنفيذياً اختار الشعبي كفاءات متميزة جداً للمواقع الوزارية خاصة وزير الصناعة د.”موسى كرامة”.. ومن قبل كان وزير التعاون “إدريس سليمان”، وفي البرلمان اختار الشعبي “بشير آدم رحمة” و”سهير صلاح”، ” كمال عمر” .. وفي مجلس الولايات “تاج الدين بانقا”.. ود. “محمد الأمين خليفة”.. وبخبرات هؤلاء شكلوا إضافات حقيقية في طرح الرؤى وتقديم المبادرات، ولم يتخل “كمال عمر” عن مشاكساته التي أضفت على الساحة حيوية وعلى الشعبي مذاقاً خاصاً.. ولكن السؤال هل الشعبي ببريقه السياسي القديم وحالة السكون التي يعاني منها الآن يستطيع كسب مقاعد توازي حجمه في الساحة حال خوضه الانتخابات القادمة؟ وهل يكتفي الشعبي بخوض الانتخابات مع منسوبي البرلمان والمجالس التشريعية؟ أم يخوض انتخابات الولاة التي لا تقل أهمية عن انتخابات رئاسة الجمهورية التي تشير التوقعات لانحياز الشعبي لمرشح الوطني “البشير”.. حفاظاً على خيوط التلاقي مع المؤتمر الوطني؟ وهل يملك الشعبي القدرات المالية التي تؤهله لخوض الانتخابات القادمة؟ أم تهزمه قلة المال وينتظر فقط الوطني أن يفسح له في مقاعد البرلمان (عطية مزين) مثل حزب الاتحاديين وأنصار السنة وبقية الأحزاب التي تركب سرج الوطني (مردوفة) برفق خشية وقوعها في قارعة الطريق؟ أم يستطيع الحزب الذي ينافس الوطني في الجامعات ويشاكسه في الساحات العامة الدخول بقوة للبرلمان القادم والظفر بمنصب الوالي في ولايتين على الأقل؟