رأي

الحاسة السادسة

بعض الرحيق

رشان أوشي

حظيت يا عود الأراكِ بثغرها *** أما خفت يا عود الأراك أراكَ
لو كنت من أهـل القتال قتلتك *** ما فـاز منـي يا سِواكُ سِواكَ”
الإمام “علي بن أبي طالب” “كرم الله وجهه”..
قبل سنوات، وأنا أقلب خزانات دولاب مهجور في بيتنا، سقطت منه حقيبة قديمة بالية، فتحتها لأرى ما تحويه، عثرت على كنز أدبي، ووجداني عظيم، ظللت احتفظ بلفافات الورق التي أخرجتها من تلك الحقيبة حتى الآن، كانت عبارة عن خطابات بعث بها أبي إلى والدتي أيام خطبتهما، والدي من ملتهمي الكتب، يمتلك مكتبة تحوي (3500) كتاب، بثلاث لغات “عربية”، “انجليزية”، و”روسية”، يعشق القراءة والإطلاع، كانت تلك الخطابات تحفة أدبية اتمنى لو سمحت لي بنشرها، تحوي تلك الوريقات مشاعر جياشة وصادقة، من رجل نبيل، أحب زوجته وتفانى في حُبها، حتى ترعرعنا نحن في كنف ذلك الحُب واقتتنا منه روحياً، لم أجد رداً على تلك الرسائل من والدتي، ربما منعها حياؤها من ذلك، فقد تربت في أسرة صوفية ومتدينة.
تجاذبت أطراف الحديث مع جدتي، عن تلك الرسائل الغرامية، ظننتها ستزجرني، ولكنها فاجأتني، بقولها :”جدك كان كاتب أول حرف من اسمي في يده بموية النار”، أذهلتني جدتي بذلك الاعتراف الغارق في العذوبة والسلام الروحي، والتسامح مع الذات، كثيراً ما حدثتنا بعدها عن حُب جدي لها، وتفانيه في إسعادها، كان كثير المدح لها، يصفها بأنها غير كل النساء، يغدقها بالهدايا البسيطة التي تناسب وضعه المادي كمهندس في مصلحة النقل الميكانيكي، يسعدها حُبه، حزنت عليه منذ وفاته قبل ثلاثين عاماً حتى اليوم .. لم تبارحها ذكراه، ولم يفارقها حُبه.
كلما تأملت في بيت الشعر أعلاه، الذي نظمه الإمام “علي بن أبي طالب” كرم الله وجهه، يصف فيه حُبه الشديد وغيرته على زوجته بنت رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، تجد أن الحُب عاطفة إنسانية بحتة، كلما تعاظمت في وجداننا صفت أرواحنا وتسامت إلى الأعلى، الغيرة رفيقة الحُب الأولى، وهي مفتاح اكتشاف تلك المشاعر النبيلة، أعظم ما نقله التاريخ عن قصص حُب غيَّرت التاريخ، وغيَّرت مصير أمم، حُب القائد الفرنسي “نابليون بونابرت” الذي أرعب الحُكام، وهزم الجيوش، كان أسيراً لعشقه لامرأة امتلكت قلبه وكيانه، كان يبكي بين ذراعيها كلما ضعفت نفسه.
الخليفة الأموي “الوليد بن يزيد”، كان شديد البأس صعب المراس، يخشاه الولاة وحتى الأئمة، لكنه وقع في غرام ابنة عمه “سلمى”، هام بها، كان يقضي أمور الدولة والحُكم نهاراً، وينعزل ليلاً لنظم الشعر بها، والتعبير عن عظيم حُبه وهيامه، من أعظم ما قاله “الوليد” في “سلمى” قصيدة رقيقة نظمها يوم عرسه منها:
فَإِذا طَيْرٌ مَلِيحٌ..فَوْقَ غُصْنٍ يَتَفَلّى
قُلتُ: مَن يَعرِفُ “سلمى”؟..قال: «ها» ثُمَّ تَعَلَّى
قُلتُ: يا طَيْرُ، أدنُ مِنّي..قال: «ها» ثُمَّ تَدَلّى
قُلتُ: هَل أَبْصَرْتَ “سلمى”؟..قال: «لا» ثُمَّ تَوَلَّى
فَنَكَا في القَلْبِ كَلْمًا..باطِنًا ثُمَّ تَعَلَّى..
مخرج:
للحُب في حيواتنا حكايا لا تنتهي ولا تبلى..

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية