تقارير

(يوناميد).. مهام ثنائية الأبعاد

قبل الخروج

الخرطوم : مزدلفة محمد عثمان
حتى وقت قريب كانت مغادرة قوات حفظ السلام المنتشرة في دارفور والمعروفة اختصارا بـ(يوناميد) محل شكوك عظيمة، فالذهنية العامة ترى أن من العسير انهاء مهام هكذا بعثات، خاصة وأن مطالبات بين فينة وأخرى تصل مجلس الأمن الدولي وتدعوه للعدول عن سحب القوات من الإقليم الشاسع، لكن ومع ذلك فإن خروج (يوناميد) بات أمرا واقعا وبدأت خطوات تنفيذه بشكل عملي لتنهي فعليا بحلول العام 2020، حال نجح الإقليم في العبور إلى استقرار كامل.
وحتى موعد المغادرة كليا على البعثة أن تنفذ مهام (ثنائية الأبعاد) كما سماها رئيس البعثة “جيرمايا ماما بولو”، حددها قرار مجلس الأمن الدولي بالتحول إلى بناء السلام والعمل على استقرار الأوضاع في بقية أنحاء دارفور وفي ذات الوقت حفظ الأمن في منطقة جبل مرة.
وتنتشر (يوناميد)، في دارفور منذ نهاية ديسمبر 2007، وهي ثاني أكبر بعثة حفظ سلام أممية، ويتجاوز عدد أفرادها (20) ألفاً من الجنود العسكريين وجنود قوات الأمن والموظفين.
وطوال السنوات الأولى التي تلت نشرها تميزت العلاقة بينها والحكومة السودانية بالتوتر والشد والجذب في أحيان كثيرة إلى أن طرح وزير الخارجية السابق “علي كرتي” على طاولة مسؤولين دوليين في العام 2011 رغبة السودان في خروج هذه القوات استناداً على توقيع اتفاق الدوحة للسلام في دارفور، لكن الجهات الدولية لم تنظر إلى ذاك المطلب حينها بعين الاعتبار خاصة وأن الوضع الأمني في الإقليم كان هشا بعد امتناع عدد من الحركات عن الالتحاق باتفاق الدوحة.
وظهر تردي الوضع الأمني في الإقليم مع تعرض قوات حفظ السلام نفسها لهجمات من جماعات مسلحة خسرت على أثرها أكثر من (60) جندياً، كما سقط آخرون جرحى في حوادث متفرقة.
وفي نوفمبر من العام 2014 أمرت الحكومة بإغلاق مكتب لحقوق الإنسان يتبع للبعثة لتناقضه مع تفويضها في تصرف يعكس حالة التشاحن التي كانت قائمة، وبالفعل أوصدته بعد أن اجرت تقييميا لعمل المكتب واعتبرت نشاطه تمددا للبعثة خارج إطار التفويض، إضافة إلى أنه تجاوز لما تم الاتفاق عليه، لكن البعثة ردت في بيان بتأكيد أن قسم حقوق الإنسان جزء من مكتبها للاتصال في الخرطوم ويقوم بدور مركزي في ربط بعثة دارفور بالحكومة والمنظمات الأخرى، وإنه يعمل منذ بداية تفويض البعثة في 2007.
وأثناء هذا التجاذب كانت أزمة منطقة (تابت) في ولاية شمال دارفور طافية على السطح، وهي القصة التي أثارت ردود أفعال دولية عنيفة حين طلبت البعثة التحقيق للمرة الثانية في مزاعم اغتصاب جماعية، وقعت في البلدة النائية، لكن السُلطات رفضت منحها الإذن لزيارة ثانية، خاصة وأنها لم تعثر في المرة الأولى على أدلة لمزاعم بعض متمردي دارفور بأن قوات سودانية اغتصبت نحو (200) امرأة وفتاة.
وبعد مرور أيام على تلك الواقعة قالت رسمياً الحكومة أنها طلبت من البعثة تحضير خطة للمغادرة، وأشارت تبعاً للوضع المأزوم إلى أن أجهزتها المختصة رصدت على مدى سنوات حوادث اغتصاب لنساء تورط فيها جنود (يوناميد) بجانب تقارير عن التحرش الجنسي وقصص مخيفة لاستغلال الفتيات، دون أن تتخذ البعثة أي إجراءات ضد المتورطين بالمحاسبة أو الإبعاد.

وأكد وكيل وزارة الخارجية السودانية وقتها “عبد الله الأزرق” أن قرار السودان بمغادرة البعثة مدروس وظل مثار مناقشات استمرت سنوات بين وزارة الخارجية والأمم المتحدة، ولم يكن رد فعل لمزاعم الاغتصاب في قرية تابت.

وفي خواتيم يونيو 2016 صوت مجلس الأمن الدولي بالإجماع، لتمديد مهمة بعثة حفظ السلام بدارفور لعام بلا تعديل في المهام أو عديد القوات، وبدون الإصغاء للخرطوم المطالبة بتنفيذ إستراتيجية خروج البعثة، وهاجم مندوب السودان القرار قائلا إنه حفل بالتناقض وتجاوز توصيات الفريق المشترك لإستراتيجية الخروج.
وأورد التقرير الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيسة مفوضية الاتحاد الأفريقي حول يوناميد، والذي جرى اعتماده بإجماع مجلس الأمن، حيثيات تم التمديد بموجبها للبعثة (12) شهراً تنتهي في 30 /يونيو/ 2017.
وقال إن النزاع في إقليم دارفور لم يطرأ عليه أي تغيير في ظل عدم توصل الحكومة والحركات المسلحة لأي تسوية سياسية، فضلا عن استمرار الاقتتال القبلي والعمليات العسكرية بين القوات الحكومية وحركة تحرير السودان بقيادة “عبد الواحد محمد نور”، رغم أن حدتها خفت عما كانت عليه.
وأشار التقرير الذي شمل الفترة من يوليو 2015 وحتى مايو 2016، إلى استمرار عمليات النزوح في ظل أوضاع لا تساعد على عودة النازحين، وأكد استمرار العمليات العسكرية على مناطق في جبل مرة بالرغم من إعلان الحكومة في 12 /أبريل/ 2016 أن دارفور خالية من الحركات المسلحة بسيطرتها على (سورونق) آخر معاقل حركة “عبد الواحد”.
وحوى التقرير خططاً لتعزيز وضع (يوناميد) على الأرض في الإقليم لجهة أن العنصر العسكري يحمل فوق طاقته لانتشار (14) كتيبة من أصل (16) كتيبة هو القوام المأذون له.
ويومها انتقد مندوب السودان لدى مجلس الأمن السفير “عمر دهب” قرار المجلس بالتمديد للبعثة، قائلا إن التطور الذي شهده الإقليم خلال فترة التقرير لا يمكن إنكاره أو تغييبه أو الافتراء فيه أو عليه، وأوضح أن القرار المعتمد حفل بالعديد من التناقض في فقراته.
وأكد “دهب” تحسن الأوضاع الإنسانية بعد انتهاء العمليات العسكرية في جبل مرة بعودة (800) ألف نازح بحسب تقرير مفوضية العون الإنساني فضلاً عن عودة (24) ألف نازح بعد أحداث جبل مرة بحسب إفادات رئيس قطاع يوناميد بوسط دارفور.
وأشار إلى أن زيارتين تقييميتين للفريق الثلاثي المشترك أثبتت تطور الأوضاع بدارفور تطورا كبيرا يمكن معه تقليص وسحب قوات يوناميد من عدد من المواقع.
وشدد مسؤولون دوليون في تصريحات لاحقة على ضرورة التزام الحكومة السودانية بعدد من الخطوات الممهدة لمغادرة البعثة، على رأسها وقف العدائيات، والتوصل إلى عملية سلام شاملة، علاوة على السماح بحركة الموظفين الدوليين، والعاملين في الشأن الإنساني، بدون عوائق، واعتبروا تلك القضايا تمثل نقطة الانطلاق للتفاوض بشأن سحب قوات حفظ السلام على مراحل.
ورويدا رويدا نجحت الحكومة في حشد تأييد واسع لرغبتها الرامية لسحب هذه القوات من الإقليم بعد أن عززته بالإعلان المستمر عن وقف إطلاق النار والتأكيد على حسمها التمرد باستثناء جيوب صغيرة لحركة “عبد الواحد نور” بجبل مرة، وبذلك نجحت في الوصول بمجلس الأمن إلى قراره التوافقي رقم (2429) الصادر في 13 /يوليو/ 2018 تحت الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي جدد بموجبه ولاية البعثة حتى يونيو/ 2019، لكن بإجراء تخفيض كبير لقوات وشرطة يوناميد.
وحوى القرار (57) فقرة عاملة تطرقت بالتفصيل للقضايا والعناوين الرئيسية المتعلقة بالبعثة والبيئة المحيطة بها، مثل أولويات البعثة، والوضع الراهن في دارفور، والوضع الإنساني والنزوح وقضايا التنمية، والوضع السياسي، والوضع الأمني، والتحديات العملياتية، والخروج الإستراتيجي في 2020، لكنه ربطها بتغيير الأوضاع السياسية والأمنية والإنسانية على الأرض.
ووفقاً للقرار، أجرى المجلس تخفيضاً جوهرياً في القوات العسكرية والشرطية لبعثة يوناميد، وأمر بتخفيضها إلى (4050)، أما الشرطة فأبقى على (2500) فرد منها فقط. إضافة إلى ذلك، نص القرار على إعادة تموضع البعثة، بحيث تركز نشاطها في منطقة جبل مرة، وتنقل رئاستها إلى مدينة زالنجي، عاصمة ولاية وسط دارفور، بدلاً عن الفاشر.
ولم يكن هذا التخفيض الأول، ففي يونيو/ 2017 أجرى مجلس الأمن تخفيضا كبيرا، وذلك عندما أمر بسحب ما يعادل (44%) من قوة يوناميد العسكرية و(30%) من شرطتها.
لكن ثمة من يرى تناقضا بين ربط سحب البعثة من دارفور بتحسن الوضع الأمني، خاصة وأنها منحت أرضا شاسعة في قولو بجبل مرة لتؤسس عليها مركزا متطورا تحت ذريعة البقاء هناك لعدم استقرار المنطقة أمنيا، لذلك فإن مراقبين يعتقدون بأن الأمم الأزمة المالية الحادة التي تواجهها المنظمة الدولية كانت دافعا رئيسيا لخفض قواتها المختلطة في السودان خاصة وأن الأزمة وصلت قمتها في 2014-2015، لكن التدهور الفعلي في الميزانية حدث عندما قرر الرئيس الأميركي “دونالد ترمب” تخفيض مساهمة أميركا بميزانية الأمم المتحدة، الأمر الذي دفع المنظمة الدولية لتخفيض نحو (13) بعثة حفظ سلام حول العالم، من ضمنها بعثة يوناميد.

وعلى الأرض نفذت (يوناميد) بالتعاون والتنسيق مع الحكومة المرحلة الأولى والثانية من إعادة تشكيل بعثة يوناميد وفقا لقرارات ومرجعيات الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن وما تضمنته الاتفاقية المرجعية الموقع عليها بين حكومة السودان والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في فبراير/ 2015م بشأن إستراتيجية خروج البعثة.

وأخلت البعثة المشتركة فعليا قرابة العشرين موقعا في ولايات دارفور الخمس وسلمت مقارها للحكومة السودانية على أن يتم تسليم المزيد من المواقع هذا الشهر.

ويقول رئيس البعثة المختلطة في دارفور “جيرمايا ما ما بولو” في مؤتمر صحفي عقده (الأحد) بالخرطوم إن المناطق التي ستنسحب منها اليوناميد سنتبنى فيها نهجاً يقوم على النظام الكلي الذي من شأنه أن يضمن أن فريق الأمم المتحدة القطري سيعمل مع البعثة لصالح استمرارية جهود إرساء دعائم الاستقرار.

ويضيف “وبالنسبة لعمليات حفظ السلام بمنطقة جبل مرة، فإن البعثة أجرت عملية كبيرة في إعادة هيكلة المكوّن العسكري بحيث خفضت القوة بحوالي (3265) من الأفراد العسكريين بحلول 31 /ديسمبر/ و(1420) فرداً آخرين بنهاية يونيو/ 2019 لتصبح قوة المكوّن العسكري (4050) فرداً بنهاية يونيو/ 2019، وسيظل المكوّن الشرطي كما هو عند سقف (2500) عنصر، بمن فيهم وحدات الشرطة المكونة والضباط المتعاقدون”.
لكن حجم الإنشاءات والتأسيسات التي تقوم بها يوناميد على الأراضي التي منحت لها في جبل مرة يفتح الباب أمام الكثير من التساؤلات حول مهام القاعدة سواءً الآن أو مستقبلا.
ويقول “سليمان جاموس”، أحد أهم القيادات المؤسسة للحركات المسلحة في دارفور، إن جبل مرة ومنطقة قولو على وجه الخصوص هي بمثابة (قلب دارفور) ويبدي في حديث لموقع (سودان تربيون) خلال مارس الفائت أمله في ألا تشكل قاعدة قولو منطلقا لأي تحركات من الأراضي السودانية في أي مهام تتجاوز الحدود، ويتابع قائلا: (وجود قاعدة كبيرة في قولو يعني وجود سبب آخر غير دارفور).
لكن “الطيب أحمد إبراهيم” عضو البرلمان عن دائرة كتم بشمال دارفور يرى أن جبل مرة يمثل موقعا مهما وإستراتيجيا لأنه أعلى قمة في وسط وغرب أفريقيا، (عليه فإن قاعدة قولو لن تكون قاعدة مؤقتة، بل هي قاعدة إستراتيجية وفقاً للدول العظمى).
ويعزز من هذه الرؤية الاهتمام المتعاظم الذي تحظى به قولو من الدول الغربية حيث حرص على زيارتها غالب المسؤولين الدوليين والسفراء المعتمدين لدول بريطانيا وأمريكا وغيرهم.
ويذهب “إبراهيم” إلى أن موقع وعلو المنطقة سيسهل أي عمليات رقابة أمنية يمكن أن تتجاوز إقليم دارفور، (لأن جبل مرة متساوٍ في الأبعاد جنوبا وشرقا وغربا)، وهو ما يجعل قاعدة قولو مؤهلة لتكون قاعدة تدخل سريع لفض النزاعات في المنطقة بأكملها.
ويضيف قائلا: (حتى إذا انتهت أزمة دارفور هذه القاعدة ستظل وتستمر).

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية