إرهاصات التسوية
#منذ فترة ليست بأقل من ثلاثة أشهر بدأت حركة نشطة دبلوماسية وسياسية في الداخل والخارج وإقليميا ودولياً من أجل إحياء عملية السلام في دارفور والمنطقتين معاً وفق تدابير جديدة اتخذت مسارات متعددة ، بعضها معلن وآخر في طي السرية والكتمان، ولكن علامات السلام الصغرى على الأقل بدأت جلية لكل مراقب للأوضاع في البلاد، فالمعارضة تعرضت لضغوط كثيفة حملتها على تغيير مواقفها السابقة من التشدد والرهان على إسقاط النظام إلى القبول بالحل التفاوضي والمشاركة في التدابير الدستورية والتنفيذية.
ولم تقتصر ضغوطات الخارج على المعارضة وحدها بل الحكومة أيضا لها نصيب من تلك الضغوط إن لم تتساقط على رأسها اليوم فإنها بلا شك ستأتي في مقبل الأيام ، والمعارضة السياسية التي يمثلها تحالف “الصادق المهدي” والحزب الشيوعي وما يعرف بالمستقلين والمعارضة المسلحة فرض عليها تبديل مواقفها وتغيير منهجها.
ومن الدوحة وبرلين وباريس وجوبا وأديس أبابا وجوهانسبرج جرت مفاوضات غير مباشرة في غالبها ومباشرة في بعض الأحيان بين الحكومة والفرقاء لم تحقق شيئاً على أرض الواقع، ولكنها فتحت مسارب ضوء خافت في عتمة ليل طويل من التشتت وضياع فرص التسوية التي إن تحققت اليوم فإنها لصالح المواطنين المطحونين بفاحش الغلاء وضنك العيش والظلم الذي يتعرضون له جراء احتجاز السلطات لأموالهم ومدخراتهم في المصارف، وفرض حصار عليهم مثل حصار العرب والغرب للدولة السودانية منذ ربع قرن من الزمان ، والتسوية السياسية بوقف الحرب من شأنها فتح آفاق للاستثمار ونماء الاقتصاد والتعاون الدولي المثمر ، ورفع اسم السودان من سجل الدول الراعية للإرهاب والدول المنتهكة لحقوق شعوبها ، والتسوية توفر مناخاً داخلياً معافى بديلاً لمناخ التعبئة العسكرية الحالي وحالة اللا حرب ولا سلام.
في الأسبوع الماضي جرت مفاوضات مباشرة بين السودان والاتحاد الأوروبي ممثلاً في دول مثل إيطاليا وبلجيكا وألمانيا وهي دول لها ثقلها عالمياً وأغلب انشغالات الأوروبيين والأمريكيين داخلية ، أي قضايا مرتبطة بحقوق المواطنين السودانيين ، وليست قضايا ذات طبيعة ثنائية، والمفاوض في هذه الجولة وزير الخارجية “الدرديري محمد أحمد” من النخبة الحاكمة المستنيرة ومن المؤمنين بأن السلام من شأنه الحفاظ على ما تبقى من الوطن ، وهو غير مستفيد على الصعيد الشخصي من استمرار الحرب بل أهله وعشيرته ممن طحنتهم آلة الحرب وفرقت شملهم ، وأضعفت قوتهم، ولكن مشكلة النخبة السياسية الحاكمة لا تعرف كيف تستثمر في نقاط قوتها وتمنح الآخر كل ما يطلبه مجاناً من غير ثمن.
النخبة الحاكمة فصلت الجنوب مجاناً وأوقفت حرب الجنوبيين بعضهم مجاناً وحاربت في اليمن مجاناً وطردت الفرس من السودان مجاناً وحاربت تهريب الأسلحة إلى إسرائيل مجاناً وتدفع من شحيح مالها لحرب تجارة البشر مجاناً لصالح الأوربيين ولم تستفد شيئاً من كل ما تقدمه من تنازلات، وإيقاف الحرب في دارفور والمنطقتين شأن داخلي وهو حق لمواطني السودان، لكن العالم بطبيعة الحال مستفيد من وقف العنف في أي بقعة من القارة الأفريقية.
ومن كل ذلك يبدو السلام الآن قريباً جداً إذا ما مضت جهود الاتحاد الأفريقي ودولة الجنوب بذات الروح والعزم والإصرار على إيقاف الحرب وإحلال السلام في دارفور والمنطقتين.