نيرتتي – كاس – رشان أوشي
على سفح “مرة جبل”، تناثرت شجيرات قصار، بقايا خريف كان متقداً، كاشتعال شمس ذلك النهار الذي نقلتنا فيه سيارات الدفع الرباعي إلى أبهى مشهد طبيعي ضمته أرض دارفور المعطاة، سيل ماء متكاسل، كان يجري منحدراً، على مجرى غلبته صخور صغيرات تقبع على جنبات النهر الموسمي، خرير تلك المياه تستمتع به نسوة يغسلن ثيابهن في الطريق، وأطفال يمرحون بصخب ويعلو صوت ضحكات بريئة.. تعلقت بنا الأعين التي لم تفارقها نظرات وجلة، فالمكان كان مسرحاً لعمليات الحرب في دارفور سنوات طوال، توقف الجميع عما يفعلون، وتابعتنا القلوب المضطربة، حيث فاجأهم أناس غرباء.. رجال كثر تشي ثيابهم بالمدنية، ونساء لا تفارقهن الدهشة، ترجّل الجميع في غابة صغيرة، وتبادلوا التحايا، واستقروا هناك.
{ “كاس” .. في طريقها للحياة
الطريق الذي سلكناه خروجاً من حاضرة ولاية جنوب دارفور “نيالا”، أعادت تأهيله وزارة الطرق والجسور، ونفذته شركة “الجنيد”، يعرف بطريق (نيالا- كاس- زالنجي)، عبّدته شركة ألمانية قبل عقود إبان حكم الرئيس الأسبق “جعفر نميري”، وفعلت به الأيام الأفاعيل، هجمات المطر في الخريف، السيول الغاضبة المنهمرة من سفوح الجبال وذخائر حرب استعرت وقتاً ما وقضت على الكثير.. كل تكالب الأقدار هذا، دمر طريق زالنجي، ولكن بعد توقيع اتفاق الدوحة لسلام دارفور عام 2011م، ذُكرت بنود في مشروعات الأعمار منها إعادة تأهيله.
كانت المشاهد عادية منذ مغادرتنا ل”نيالا”.. وصلنا “كاس”، ظهيرة، مظهرها يوحي بأنها مدينة، لكن أحبطها الإهمال، وأرهقها القدم، تكاد تخلو من الناس.. يبدو أن قسوة الحياة أجبرت أهلها على البحث عن سبل عيش في مناطق أخرى، باستثناء صبية في سوقها الكبير الذي تجولنا فيه عابرين، وسيدات يضعن بضائعهن التي يغلب عليها الطعام، ولكن المثير في الأمر، أنني رأيت مشهداً ندر في أسواق الخرطوم، فقد ظهرت تلك الحرف القديمة، في محال بدائية وبآلات بسيطة تحمل تلك الصورة الذهنية التي حملها الإعلام الشعبي الدرامي عنها، تجد هنا خياطاً “ترزي” يجلس أمام ماكينة خياطة صممت في الثمانينيات، ونجاراً منهمكاً في مقاومة الخشب، وحداداً يطرق الحديد بعنف، فاتضح أن “كاس” مدينة معتقة.. صادفنا حي يتمسك بالحياة بقوة، ضج بالعابرين والمتآنسين تحت ظلال الأشجار الكثيفة، وأنعشت رائحة تحميص البن الأجواء الرطبة.
الرمال والوعورة التي تشير إلى أننا نقترب من منطقة مرتفعة أضفت على حركة السيارات ثقلاً بسيطاً، نهبنا الأرض حتى استقبلنا العراء.. يبدو أننا خارج المنطقة المأهولة بالسكان، انتصب مجمع سكني صغير، هو مقر شركة “الجنيد” للتشييد والطرق، مملوكة لرجل الأعمال “عبد الرحيم دقلو”، تعمل على تعبيد عدة طرق داخل الإقليم.. المعسكر حيث وصلنا، يحمل قاطنوه سحنات مختلفة، توضح أنهم منسوبو الشركة من مهندسين، عمال، وإداريين.. استقبلتنا فرقة رقص شعبي، يرتدي راقصوها لباس أهل البطانة، ويرقصون “الصقرية”، ضج المكان بالصخب، حتى شاركهم الحضور، وبعدها ألهب المكان الفنان الأكثر شهرة “عبد القادر سالم”، فتمايل الجميع على إيقاعات “المردوم” و”الجراري”.
خاطب وفد الصحافة المهندس “عمر بلال”، كبير مهندسي الشركة المنفذة، موضحاً بأن طريق (نيالا- كاس) بطول (97) كيلومتراً تم تأهيله بعد أن حدثت به انهيارات، في الموسم الثاني أكملت العمل على بقيته (كاس –زالنجي)، (110) كيلومترات.. ومن جانبه، أشار الأمين العام لصندوق إعمار دارفور “هاشم حماد” إلى أن وزارة المالية تعاقدت مع شركات على تعبيد الطرق بـ(6) أقساط، القسط الثالث الذي نعمل به حالياً يبلغ (300) مليون دولار، مردفا: (لدينا أزمة في صناعة الطرق ولكن شركة الجنيد دخلت حديثاً وبقوة)، منوهاً إلى أن متبقي الأقساط (400) مليون دولار ولكن وفقاً لظروف البلد الاقتصادية، وزارة المالية تلتزم بخاطبات ضمان بالعملة المحلية، بينما أعلن المدير العام للهيئة مهندس “جعفر حسن” عن (2400) كيلومتر من الطرق تنفذها شركات أخرى (نيالا- برام- تلس)، مردفاً: (دارفور نصب أعين الدولة في مسألة تشييد الطرق).
{ “نيرتتي”.. مدينة البرتقال
غادرنا “كاس”، باتجاه وسط دارفور.. بدأت الأرض تقاومنا اشتدت وعورة الطريق، شمخت الجبال بثبات، اتضحت معالم المكان، نحن الآن نصعد إلى “جبل مرة”، رافقنا الفراغ من البشر باستثناء فرقان صغيرة، ترى بعض الناس يستغلون الدواب، امرأة تمتطي حماراً وتحمل كومة قش، وقطيع أبقار تلتهم العشب الذي على وشك الجفاف، و”نوق” تمد أعناقها إلى الشجر المتناثر بين صخور الجبال، متفادية شجرة تحمل ازهاراً برتقالية اللون، جميلة وبهية، قيل إنها سامة.. تلك الزهرات تحمل الموت متوارياً خلف الجمال.
فجأنا سوق صغير، اجتمع فيه السكان، معظم العمالة في تلك المناطق من النساء، هن هنا مجتهدات كثيراً، يخدمن المجتمع بتفانٍ.. ازدادت الوعورة حتى بان لنا أننا عند سفح الجبل، حيث اختلفت الحياة كثيراً، المكان هنا يشبه ما صورته لنا روايات الأدب الأوروبي كالتحفة الأدبية “وزرينغ هايتس” للكاتبة “إيميلي برونتي” التي نشرت عام 1847، وأخذ اسم الرواية من عزبة في مروج “يوركشاير” وهي بلدة تاريخية في “إنجلترا الشمالية” (فكلمة ويذيرنغ في يوركشاير تعني الجو المتقلب).. حياة سكان الجبال مختلفة، يسيطر عليها سلوك إنساني يشير إلى مدى محاولته التكيف مع الطبيعة، بات واضحاً أننا على ارتفاع مقدر من السهل الذي عبرناه قبل ساعة ونصف الساعة.. محلية “غرب جبل مرة” ، و”نيرتتي” تحديداً عبارة عن مزارع كثيفة، معظمها بستانية، تكثر فيها الموالح خاصة “البرتقال”، مع اشجار “تفاح” صغير الحجم أخضر اللون.
{ تعايش بهي
تسكن منطقة “نيرتتي” مجموعات سكانية تشكل نسيجاً اجتماعياً متماسكاً، لم تهتكه الحرب والخصام، تتعايش قبائل “الفور”، “الزغاوة”، “الرزيقات” و”المساليت”، ينعم الناس هنا هذه الفترة بنسبة كبيرة من الأمن والاستقرار، حيث استأنفوا حياتهم الطبيعية، وعادت الأرض تعطي بخصوبتها القديمة، وهو ما أكده معتمد محلية “غرب جبل مرة”، الأستاذ “حسبو”، قاطعاً بأن صوت الذخائر لم يعد موجوداً، وعادت للأطفال بهجتهم التي سلبتهم إياها أعوام عجاف، قائلا: (تعافينا ووصلنا المرحلة الطيبة).
بات واضحاً أن الحرب قد وضعت أوزارها، وسنوات التعاسة غادرت، ومن ثم يسير إقليم دارفور بخطى واثقة نحو مزيد من الاستقرار والحياة البهية.